Post: #1
Title: من أسلس فن الحوار عنانه لها كتبه عبد الله علي إبراهيم
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 11-12-2025, 03:54 AM
03:54 AM November, 11 2025 سودانيز اون لاين عبدالله علي إبراهيم-Missouri-USA مكتبتى رابط مختصر
مقدمة كتاب "حواراتي" لعفراء فتح الرحمن (2022)
جمع هذا الكتاب الذي بين يديك ثلاثين مقابلة صحفية مع وجوه القوم لجريدة "اليوم الآخر" وتلفزيون الخرطوم أجرتها سيدة الحوارات عفراء عبد الرحمن. وراوح طيف الحوارات بين السياسي والكاتب والشاعر والأكاديمي والروائي. وكانت النساء السدس فيهم. ومن التقت بهم عفراء ممن عرفوا في الإنجليزية "هو من هو" في دلالة اجماع نخبة لا مفر من التربص الصحفي بها في زمانها: ٢٠١٤. ومنهم، من جهة القيمة، من ستبقى مأثرته ومنهم من هو ابن الظرف لا غير.
أعرف ملكة عفراء في الحوار فقد قرصتني على تلفزيون الخرطوم، ونشرت الحصيلة هنا، ومنذها وأنا أتحسس مجر الحبل على نفسي. فتأتى للمحاور وقد أحسنت العلم به. فاستدعت الشاعر القدال للقاء بعد صدور "المربعات" الشعرية التي كان ينشرها يومياً ناقداً كل أعوج بالبلد. وأثارت ضجة. وجاءت لفتح العليم فتح الرحمن بوثائق حركته، سائحون، مما هو عناية منها بحركة شغلت الرأي العام آنذاك. وجاءت لهالة عبد الحليم أول امرأة تتقلد رئاسة حزب سياسي وذيول هذا الاقتحام أو التقحم. وتجد علمها الحسن بمأثرة محاورتها بثينة خضر. فسألتها عن دلالة راويتها الأولى "بت المك". وأظهرت معرفة بمفردات إبداعها. فكل سؤال عنها نم عن إطلاع على الراوية المخصوصة، بل كانت تأتي بمقتطف من الرواية مدخلاً لسؤالها عنها. وقرأت حتى نقاد بثينة. وجاءت لأسماء محمود محمد طه في خضم معركتها لتسجيل الحزب الجمهوري بعد رفض الحكومة له لمساسه بالعقيدة، ولأنه طائفي، ومذهبي، ويهدد السلام الاجتماعي. وسألتها أسئلة نمت عن اطلاع دقيق بكتابات أبيها:
-كيف عرف محمود أنه ترقى إلى الأصالة بينما أعمالنا لا تعرف إلا في الآخرة؟
-إنما يتقبل الله من المتقين".
ولها مأتى للسؤال تزينه بعلم آخر. فسألت شابو عن فتوح باب الشعر عليه بمقدمة عن أن الذي فتح باب الشعر عن نزار قباني كان رؤية أخته منتحرة.
ووجدت عفراء شديدة في حصار من وقع بيدها كصحفية عزيزة الجانب بسلطة رابعة. فلم تبرح إبراهيم الأمين ليفرق بصورة أدق بين "الانتقالية" و"القومية". وكانت تأخذ من أحاديث آخرين عنه مثل الإمام الصادق المهدي لتمصر الإجابات منه. وسخنت مع ربيع عبد العاطي حتى تحول هو للسائل. فقالت له: أسأل أنا، أنا لا أجيب". وحاصرت التجاني السيسي، رئيس الإدارة في دارفور السابق، عن تصريح لعثمان كبر، والي شمال كردفان، لم يسمع به السيسي. ورغبت لو سألت علي السيد عن تجربته الطويلة كقاض شرعي وشيوعي قبل أن يغادر الأخير للحزب الاتحادي. فأكثر متاعبه مع هذا الحزب المملوك ربما جاءت من هجرته إليه من حزب آخر. ورغبت كذلك لو توسعت مع محمد مالك عثمان في روايته عن شهيد ثورة أكتوبر الثاني بابكر عبد الحفيظ الذي سكن معه في نفس الغرفة بداخليات جامعة الخرطوم قبل مصرعه.
يكاد ينقسم الكتاب إلى نوعين من المقابلات. نوع مع السياسيين وجدتها الأقل متعة بانقضاء الواقعة التي سعوا بها على المسرح. ولكنها تكشف عن عوالم للصفوة واشجة رغم الخلاف. فتوقفت عند التماس الإمام الصادق المهدي من الرئيس البشير ألا يسافر لمؤتمر للأمم المتحدة في نيويورك. فقال له إن منعوك الفيزا عار علينا، وإن دخلت أمريكا لن تضمن تحرش القضاء الأمريكي المستقل. وهذا نبل كبير. وظهر عبد العزيز خالد انقلابياً صميماً حين سأل فتحي أحمد علي، القائد العام للجيش في ١٩٨٨، أن يتبع مذكرة الجيش الشهيرة بانقلاب.
ولكن عفراء وجدت بين السياسيين غازي سليمان سياسياً حكاء ذا أذرع لم تترك كياناً سياسياً لم تشتبك معه، وفي العمق. فلا قشة مرة عنده كانت تلك حسن الترابي أو جون قرنق. ولابد أن عفراء أمتعها سؤاله لأنه "درويش القرية السياسية" السودانية. طليق اللسان رؤيوي. قال عن الوطني الاتحادي أنه حزب فاشل بتفوق إلا أنه ليس عميلاً. وحكى عن وجوده مع سليمان جاموس والحاج آدم في زنزانة واحدة مغضوباً عليهم من الإنقاذ. ثم أضاف بطريقته النهّازة للمفارقة:" وصارا وزيرين في ما بعد وأنا لا". وله مع الترابي نوادر من تلك التي تقع بين الخاصة نحمد لعفراء أن لملمتها.
ووجدت في مثير الجدل الطيب مصطفي صيداً ثميناً. وصدقت في قولها إنك، مهما اختلفت، معه لا تملك غير التوقف عند إيمانه العميق بما يقول، وعزائمه أن يتبع القول بالعمل. فهو مدرك أنه مسبوق إلى الدعوة لفصل الجنوب بمثل الشاعر يوسف التني ولكنه اختلف بأن دجج الدعوة بحزب وصحيفة. وقل من يذكر للطيب "تحريره" الغناء السوداني حين آلت إليه إدارة الإذاعة والتلفزيون من شوائب ذكر الخمر والجنس. وهي حادثة انفجرت كفضيحة سياسية. ثم خملت كمأساة إبداعية. فقال إنه حرر ما اعتبره لغواً في الغناء. فأزال من أغنية "عبدت القبر يا سلوى لأن القبر ضماكي" والقبر لا يعبد. وناقش الفنان حمد الريح في أغنية “حليلو قال ناوي السفر" التي فيها لعن للقدر. والقدر لا يلعن. ولما قال إنه أجرى تلك التعديلات مع الاحتفاظ بالألحان شفقة بالشعب المسلم لم تتفق معه في وصائيته فسألت:
- يا مهندس الشعب مسلم قبل أن تصبح مديراً للتلفزيون. والتلفزيون الذي تتحدث عنه هو إرثه وثقافته.
-نعم مسلم لكن أغاني الخمور نخليها؟
ولكن كان الأمتع بالتأكيد هو حوارها مع الفنانين والشعراء. فغلبت سيرة النشأة في أحاديث الفنانين والشعراء في حين خلت منها سير السياسيين مما جعل حديث الأولين أمتع. فلم يتوقف أحد من السياسيين عند نشأته في أسرة. ومن ذكرها مثل مختار الخطيب تجده فات طفولته في عطبرة معجلا ليربط بين المدينة وشيوعيته وكفى. فالفنان والشاعر في الكتاب مُوَطنان في أسرة مثل حمور زيادة الذي هو ثمرة وحيدة لأب وأم وكتب. . . وحبوبة. ويموت واحدهم على الأرصفة الباردة مثل بهنس ليقول عنه القدال:" بهنس انتقم بموته على رصيف بارد لتجاهله".
وكان صلاح بن البادية صيدها الأكبر في هذه الناحية. فجاء تعريفها به عن نظر في ملكة صوته وتطريبه. فبدأ بنشأته في أسرته كما ينبغي للسيرة أن تبدأ لا بدخول المدرسة الثانوية خاصة لصفوة التعليم. وعرّفنا بملابسات نشأته في قرية أم دوم وقد ولد "جنى سبعة" بالغ العلل لم ينتظر أحد له أن يعيش. واطلعنا على ولاء استثنائي لحبوبته التي كانت سبب استنقاذه من رحيل منتظر حتى عدها أمه وعد أمه أخته. وقل أن عرفنا أنه بدأ حياته كشريك في دكان وسائق بص سفري ثم إلى الفن. فتخرج من هذا العلم بصلاح وقد أسعدك أنه لم يكن فينا فحسب، بل كيف ثابر هو أن يكون فينا وهجاً مبدعاً: جنى سبعة الذي به اكتمل الطرب السوداني
وبالطبع جعل الشاعر التجاني حاج موسى من أمه أماً للجميع لقيامها بأمانة يتيم بتطرف أو فدائية. وفطانة التجاني مشرقة بقوله إن حي العباسية "مفخخ بالدهشة" للزمالة الإبداعية التي ربطته بزيدان إبراهيم والرهط. وتخرج من أحاديث التجاني بدين يطوق عنقك. فأنت لابد أن علقت بعبارة منه حتى لو لم تعرف أنه القائل. فأبقت أمي أنا فيّ منه: "تمر أيام وتتعدى ونقعد نحسب المدة". ولم أزد عن معرفة أنها من غناء زيدان. وصارت "وحاجات تانية حامياني" مجازاً دارجاً على يد عبد اللطيف البوني.
ووصفت عفراء الحلنقي بأنه "يحرك ساكن القصيدة الغنائية السودانية لنصف قرن" وصدقت. وعرض علينا من ميلاد القصيدة والأغنية صوراً من الزمالة في الشرق. وله في العبارة نداوة بوصفه للأغنية: "وكما خلقت الفراشة ملونة هبة من الله".
ليس بوسعي بالطبع كقارئ للكتاب إلا تصويب بعض ما ورد في الحوارات مما علمت. فلم تكن ندوة أكتوبر الأولى مما نظمه منتدى الفلاسفة كما قال محمد مالك عثمان. فالمنتدي ربما وليد ثمانينات القرن. كان من دعا للندوة جمعية العلوم الاجتماعية ورئيسها خوجلي أبوبكر. وكنت من بين تحدث فيها وموضوعها "الجوانب الاجتماعية لمسألة الجنوب". ولم اتفق مع مختار الخطيب أن ماركس لم يقل إن الدين أفيون الشعوب. ومعنى العبارة كاملاً في تلك التي جاءت في أثرها وهي أن "الدين قلب مجتمع لا قلب له". وجادل بعضهم عن أن دلالة الأفيون في القرن التاسع عشر كانت غير دلالته في القرن العشرين. ووددت لو حاصرته عفراء حول دخولهم المجلس المركزي في ١٩٦٣ وكيف نقدوا ذلك بآخرة كما قال. كما وددت لو لم تقبل منه قولهم إنهم سلميون في النضال ولا وصاية لهم على الجبهة الثورية (من الحركات المسلحة والمعارضة المدنية). فهذا ترخيص لها أن تفتك بمن شاءت كما فعلت من غير مؤاخذ من المناضلين المدنيين. ولم اتفق مع حسن مكي في ضربه المثل برواية "شارع القصر" للفساد السابق للإنقاذ. فقال إن جريدة الصحافة كانت تنشر فضائح ذلك الفساد على صفحاتها. وحقيقة الأمر أن "شارع القصر" كانت رواية إحسانعبدقدوسية نشرها مؤلفها عبد الرحمن مختار مسلسلة على جريدته. ولقي الأمرين منها بوقوفه حتى أمام القضاء.
شكراً لعفراء التي رأت أن تجمع حصيلتها من تلك اللقاءات في كتاب يبقى أثراً عن وجوه مجتمعنا وساسته، وتاريخاً لمنعطف في الزمان والمكان، ومادة لعلم المقابلة الصحفية من واحدة ممن أسلس الفن عنانه لها.
|
|