من يترك مقعده خالياً: يرتدّ إليه صدى الغياب من عمق الفراغ. كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر

من يترك مقعده خالياً: يرتدّ إليه صدى الغياب من عمق الفراغ. كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر


11-12-2025, 01:14 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762910053&rn=0


Post: #1
Title: من يترك مقعده خالياً: يرتدّ إليه صدى الغياب من عمق الفراغ. كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 11-12-2025, 01:14 AM

01:14 AM November, 11 2025

سودانيز اون لاين
د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK
مكتبتى
رابط مختصر




ربما لا يدرك الإنسان هشاشته كما يدركها عند حافة قبر، هناك، حيث يختلط صمت التراب بصخب الذكريات، تنكشف الحقيقة عارية. أننا لا نعرف قيمة من نحبّ إلا حين نحمل نعوشهم بأيدينا المرتجفة، فيكون الحمل الأخير هو أوّل اعتراف بثِقل غيابهم. وتلك الدموع التي تنهمر في الوداع، مهما تخفّت خلف الوقار، ليست حزناً خالصاً، بل مزيجٌ مرّ من العتاب واللوم والندم، ندمٌ على كلمةٍ لم تُقَل، وخطوةٍ أُهملت، ووصالٍ كان ممكناً قبل أن يغلق الموت أبوابه على من لم نعرف نورهم إلا بعد أن انطفأ.

هذه الحقيقة ليست شأناً فردياً فحسب، بل هي جوهر مأساة الوطن، الروح العميقة التي تفسّر كل ما جرى لنا منذ أن توهّمنا أننا قادرون على تجاهل بعضنا بلا ثمن. فقد تعاملنا مع الإنسان لا باعتباره قيمة، بل باعتباره رتبة. ومع التنوع لا بوصفه ثراء، بل بوصفه عبئاً. ومع الإخوة لا كشركاء وطن، بل كأطراف يمكن الاستغناء عنها دون أن يهتزّ جسر الدولة. وحين تهاوى، وجدنا أنفسنا أمام وطنٍ يشبه جنازةً حضرها الذين غابوا عن صاحبها في حياته، ثم تزاحموا على نعشه يبكون موتاً كانوا شركاء في صنعه. مرةً بالإهمال، ومرةً بالاستعلاء، ومراتٍ لا تُحصى بالصمت.

كُنّا ننظر إلى إخوتنا في الجنوب كما لو أنهم ظلٌّ ملقى على جسد الوطن، لا جزءٌ نابض من روحه. لم نسأل عن آلامهم، ولم نستمع إلى لغاتهم إلا كما لو كانت أصواتاً غريبة، ولم نطلّع على ثقافاتهم إلا من خلف ستائر ضبابية من الأحكام الجاهزة، تركنا للمسافة أن تتعاظم، وللوهم أن يتسيّد، وللفقر أن يتحوّل إلى قدر، وللإقصاء أن يصبح طباعاً يومية لا نراها. وحين وقع الانفصال، لم يكن مجرّد حدث سياسي، بل شهادة وفاة علاقة لم نحسن رعايتها. وفجأة وجدنا أنفسنا نبكي الجنوب كما يبكي ابنٌ أباً هجَر زيارتَه سنين طويلة؛ بكاءٌ متأخرٌ لا يعيد وحدة، ولا يداوي ندماً تمدّد في الصدور بعد فوات الأوان.

ولم يكن الجنوب إلا بداية سلسلة طويلة من الدموع المؤجلة. فقد كرّرنا الفعل ذاته مع جبال النوبة، حيث ظنّ البعض أن المسافة الجغرافية تُخفّف الوجع، وتناسى الجميع أن النار التي تشتعل في الأطراف ستصل عاجلاً أم آجلاً إلى القلب. وحين اشتعلت، لم نجد تفسيراً سوى النحيب. ثم تكرر المشهد في دارفور، والنيل الأزرق، والشرق، والشمال. كل منطقة تحترق، فننهض إلى المراثي، لا إلى الإصلاح. كل جرحٍ يتسع، فنهرع إلى الرثاء، لا إلى المراجعة.

كأن السودانيين قد اعتادوا أن يحضروا فقط لحظة الوداع، وأن يغيبوا عن كل ما قبلها. ننتظر حتى ينهار الجسر، ثم نحشد الحزن. ننتظر حتى يجفّ النيل، ثم نكتب عن أهميته. ننتظر حتى تنهار الدولة، ثم نتساءل كيف انهارت. إننا نرى الأشياء بوضوح بعد فوات الأوان، ونعرف أخطاءنا فقط عندما تتحول إلى كوارث. الوطن أصبح أشبه بمريضٍ زرناه بعد موته، ووقفنا حوله نستعرض ما فعلناه به، وما لم نفعله، وما كنا نظن أنه سيحتمل إلى الأبد.

إن أصل المأساة ليس الحروب التي نراها، بل ذلك الفراغ الأخلاقي الذي سبق الحروب، ذلك الغياب الذي ملأته الانقسامات. غياب العدالة، غياب الاعتراف، غياب الدولة حين احتاجها الأطراف، وغياب الحسّ الإنساني حين كانت البلاد تنتظر صوت ضمير واحد يرفع صوته في وجه الخراب، ويستعيد لها نبض الحياة الضائع. لم نجد ذلك الصوت. تركنا البلاد تتصدّع بإيقاع بطيء، حتى جاءت اللحظة التي انهار فيها كل شيء دفعة واحدة، وعمّت الحرب كل بيت، كأنها تقول لنا هذا هو ثمن الغياب.

واللافت أننا اليوم نبكي ما صنعتْه أيدينا، كأن الدموع تملك حقّ تبرئةٍ لم تمنحْه الأفعال. نبكي الخرطوم وقد صارت أطلالاً، ومدناً خبا نورها، وأطفالاً تاهت عنهم الأسقف، وشوارع كانت تنبض بالحياة ثم صارت صدىً بعيداً لحياةٍ مضت. نبكي الجنوب لأنه رحل، ودارفور لأنها احترقت، والجزيرة لأنها نُهبت، والأطراف لأنها جاعت. نبكي كأننا لم نكن طرفاً في كل هذا الفقد، وكأن الحرب هبطت علينا من غيومٍ مجهولة، لا من أيدٍ شاركت صمتاً أو فعلاً في إشعالها.

إننا لا نحزن على الموت بقدر ما نحزن على اللحظات التي كان يمكننا فيها أن نمنعه ولم نفعل. تماماً كما يبكي الإنسان أباه أو أمه حين يتذكر كل اتصال لم يرده، وكل زيارة لم يقم بها، وكل كلمة محبةٍ ضنّ بها وهو قادر عليها. هكذا يرثي السوداني نفسه اليوم، يبكي ما كان يمكن إنقاذه لو أنه حضر في اللحظة التي كان فيها الحضور فعلاً يدرأ السقوط، لا مجرد مرثية بعد فوات الأوان.

لكن السؤال الذي يواجهنا اليوم ليس كيف نبكي، بل كيف نوقف البكاء. ونمنع أنفسنا من أن نشارك مرة أخرى في صناعة جثمانٍ جديد للوطن؟ ونؤسس لأخلاق حضورٍ جديدة. حضور الدولة حين يحتاجها المواطن، والعدالة حين تُنتهك الكرامة، والسياسات حين يبدأ الظلم، و العقل حين تلوح بوادر الفتنة؟ فبناء السودان ليس مشروع عمرانٍ فحسب، بل مشروع ضمير، لإعادة تعريف الإنسان السوداني، لا كقبيلة أو جهة أو لون، بل كشريكٍ فاعل في مصيرٍ واحد، يختار الحياة لا الخراب، والوفاء لا الإهمال، والحضور لا الغياب.

وإذا كنا قد بكينا ما فقدناه حين رحل، وما احترق حين تُرك وحيداً، وما تهشّم حين غاب سدنة عمارته، فلنجعل من تلك الدموع درساً أخيراً. أن الحضور في لحظة الحياة أثمن ألف مرة من الحضور في لحظة الموت. وأن الوطن ليس أرضاً فحسب، بل علاقةٌ حيّة، إن لم نرعَها وهي تنبض، سنبكيها حين تُوارى تحت التراب.

ولعل أخطر ما يمكن أن يلاقِي أي وطن هو أن تمتد مراسم وداعه بلا نهاية، وأن يقف أبناؤه صباح كل يوم في طوابير متجددة من الفقد. فإذا أردنا للوطن أن يحيا، فعلينا أن نحوّل سؤالنا الأبدي: لماذا نذرف الدموع بعد كل شيء؟ إلى سؤال أعمق وأصدق وأكثر شجاعة. أن نحضر قبل أن يتحول الغياب إلى ما لا عودة منه، قبل أن يفوت الأوان. فالحياة الحقيقية للوطن لا تُقاس بوجودنا فيه بعد الرحيل، بل بحضورنا فيه قبل أن يدفن الغياب كل الفرص، حينها فقط يكون للوفاء وزن، وللحب عمق، وللوطن معنى.
[email protected]