محمد أبو القاسم حاج حمد: عن المهدي المنتظر والمنتصر والمنفصل (3-3) كتبه عبد الله علي إبراهيم

محمد أبو القاسم حاج حمد: عن المهدي المنتظر والمنتصر والمنفصل (3-3) كتبه عبد الله علي إبراهيم


11-11-2025, 04:26 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762878362&rn=0


Post: #1
Title: محمد أبو القاسم حاج حمد: عن المهدي المنتظر والمنتصر والمنفصل (3-3) كتبه عبد الله علي إبراهيم
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 11-11-2025, 04:26 PM

04:26 PM November, 11 2025

سودانيز اون لاين
عبدالله علي إبراهيم-Missouri-USA
مكتبتى
رابط مختصر








التاريخ نوعان. التاريخ الذي يقتصر على تدوين أو رواية الأحداث، وذلك الذي يجتهد ليقف على حقيقة تلك الأحداث ناظراً إلى مستويات عريضة من الدوافع والمسببات. ومحمد أبو القاسم حاج حمد مؤرخ من صنف التاريخ الثاني. وهو بنيوي (من بنية) النزعة ومعناها أنه يسعي ليمسك بخواص البنية السودانية وتركيبها ليقف على جدل الحركة فيها. وهذا منهج وقع لمحمد أبو القاسم في بيروت من أثر الثقافة الفرنسية. أما أكثر التاريخ عندنا فهو مسرد أحداث كما هو عند المدرسة الإنجليزية.

فالسودان عند محمد أبو القاسم هو جماع بنيات أو تراكيب تخلقت في رحم المهدية. وهي ثلاث بنيات. سمّى الأولى قوى المهدي المنتصر وهي قوي النيل الشمالي التي مستها ثقافة البحر الأبيض المتوسط (وبالأخص مصر) بسحرها منذ دفع بها الحكم التركي إلى خضم سياسات وانفعالات عالم ذلك البحر. وهي التي جاءها المهدي لبيعة المنتصر. وسمّى القوى الثانية بقوى المهدي المنتظر، وهي قوى غرب السودان التي بايعت المهدي وهو في حال انتظار لا انتصار. وهي قوى مشدودة إلى غرب أفريقيا وصلتها بالمتوسط هي "أولاد البحر". أما القوي الثالثة فهي القوي الجنوبية والتي سماها قوى "المهدي دينق" التي خرج فيها مهديها مستقلاً بين الدينكا على إثر ثورة المهدي الشمالي. وهي جماعة ركزت على حقوقها القومية في وجه القوي المتوسطية بالتشديد على الانفصال. ومحمد أبو القاسم البنيوي يكتب تاريخ السودان الحديث في ضوء تفاعل هذه البنيات كما تتدافع وتتشاكس وتلتئم وتتشظى. فلا يمر بطور من تاريخنا الحديث إلا كشف عن جدل هذه البنيات حتى اشتهرت عنه كلمة "جدل" يتوكأ عليها في كل نقاش.

وسيصعب بالطبع في هذه العجالة أن نرصد كيف كتب محمد تاريخ السودان الحديث في مؤلفه "السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل" على ضوء بنياته الثلاث المذكورة. وسيصعب أكثر أن نقوّم توفيقه بالطبع في مقام النعي والفقد هذا. ولكنني سأكتفي بعرض الطريقة التي كتب بها تاريخ الإدارة الاستعمارية الإنجليزية منظوراً إليها من جدل البنيات الثلاث.

فمن رأي محمد أن الإنجليز قد خربوا جدلية السودان المرموز لها بمهدياته الثلاثة لأول عهدهم بالبلد. فقد سعوا لإقصاء مصر عن الحكم الفعلي. وهذا نزع للسودان عن متوسطيته. كما حاربوا بقايا المهدية مما غيب الغرب عن جدل السودان. وبعزل الجنوب عن الشمال شجعوا الانفصالية الجنوبية التي هي على الضد من هذه الجدلية. وقد ميز محمد بواكير حركة خريجي المدارس الغردونيين ووصفها بأنها تجديد للمتوسطية. وقد أكسبها هذا عداء الإنجليز وأعيان السودان من حلفائها. وقد بعث الإنجليز بطلبة السودان، بما فيهم الزعيم الأزهري، الي لبنان بدلاً عن مصر لكسر الشمال المتوسطي.

ولم يجد الإنجليز بداً من الانخراط في جدل بنيات السودان يوم احتاجوا إلى حليف داخلي خلال الحرب العالمية الأولى التي كانت تركيا العثمانية الإسلامية فيها خصماً لهم. فقد تقربوا الي السيد عبد الرحمن المهدي زعيم الغرب الذي استدبر مصر بالانتماء إلى خطة "السودان للسودانيين." أما الختمية والخريجون، الذين جفاهم الإنجليز، فقد مالوا الي مصر واقتصروا عليها ولم ينفتحوا على المتوسطية الجامعة. ولكن الاستعمار متقلب المصالح لا يصبر على التحالفات. فقد عاد بعد اتفاقية 1936 إلى إيثار الميرغني علي المهدي، أي لتفضيل المتوسطية على الغرب. ثم عاد إلى المهدي وغرب الإمام المنتظر بعد فزعه من مذكرة مؤتمر الخريجين الساخنة في 1942. وقد أدت هذا التقلبات بين المهدي والميرغني الي انشقاقات في مؤتمر الخريجين مثل انشقاق الشوقست (المهدي) والفيلست (الميرغني). وهو الانقسام الذي حال دون الخريجين وأن يكونوا قوة تشق طريقاً مستقلاً لها في السياسة السودانية.

ولمحمد أبو القاسم نظرة طريفة لقوى المهدي دينج الجنوبية على ضوء جدليته السودانية. فقد عاد إلى مؤتمر جوبا (12 يونيو 1947) وهو المؤتمر الذي نفضت به بريطانيا يدها عن سياستها العازلة للجنوب عن البلد. وقرر فيه ممثلو الجنوب أن يكونوا جزءاً من السودان. فقد جرَّح محمد أبو القاسم تفسير كل من روبرتسون، السكرتير الإداري آنذاك، والدكتور فرانسيس دينق لهذه العودة. فقال روبرتسون بأن تغير الجنوبيين من موقف الانفصال عن الشمال، الذي تبنوه في مطلع جلسات المؤتمر، قد وقع بسبب مساع للمرحوم القاضي الشنقيطي أجزل لهم فيه الوعود بالترقي في سلم الخدمة متى ارتبطوا بالشمال. أما فرانسيس دينق فقال إن المصريين كانوا هم الذين ضيقوا على روبرتسون ليضم الجنوب إلى الشمال. وقد صرف محمد أبو القاسم تفسير روبرتسون ووصفه ب"السخف". وتساءل حيال تفسير دينق: ما الذي جد في 1947 ليستمع الإنجليز للمصريين بشأن الجنوب وهم الذين لم يلقوا لهم أذناً قبلاً على استقامة مصالح المصريين وإلحاحهم عليها.

واستصوب محمد أن ننظر الي تغير موقف الإنجليز حيال الجنوب في إطاره الجدلي. فقد تقدم الإنجليز بمشروع الجمعية التشريعية في 1948 كإطار استعماري للملمة السودان تحتهم وبعيداً عن مصر. وقد كانوا خرجوا منذ عهد قريب يلعقون جراحهم من تجربة المجلس الاستشاري لشمال السودان (1946) الذي قاطعه الشمال المتوسطي بينما قبل به المهدي علي رأس قوي الغرب. وتكأكأت القوى المتوسطية في حرب على المجلس الاستشاري فقتلته في المهد. وأراد الإنجليز تفادي هزيمة أخرى من المتوسطية لمشروع الجمعية التشريعية. فهداهم فكرهم إلى الإتيان بالجنوب إلى حلبة شمال السودان ليلعب أدواراً لصالحهم في حرب التركيبات الجدلية السودانية. وأرادوا بشكل خاص أن يكون "فرملة" لاندفاع قوى الغرب والمتوسطية للحكم الذاتي أو الاستقلال وفق أجندة اختلفت عند كل منهم. ووقف الجنوبيون في الجمعية التشريعية بالفعل مع هذا التأجيل للحكم الذاتي حين مال حزب الأمة الي تسريعه في 1950. وقد اطلع الإنجليز قادة "القبائل" الشمالية (ممثلين في الحزب الجمهوري الاشتراكي) أيضاً على رأيهم بشأن الحكم الذاتي لكي يضغطوا على حزب الأمة ليتريث في مسألة ذلك الحكم. وتضافرت قوي الجنوبيين والقبائليين بالفعل في الجمعية التشريعية وأسقطت مرتين اقتراحاً لقوي الغرب وحزب الأمة طالب بالحكم الذاتي المعجل عام 1950، مرة في مارس ومرة في ديسمبر منه.

ولم يكن الشنقيطي، في قول محمد أبو القاسم، وسيطاً شمالياً بحتاً أو مجرداً. فقد كان هو وسيط قوى الغرب المتحالفة مع الإنجليز لاستدراج الجنوبيين وطمأنتهم إلى الحلف الناشئ لهزيمة القوى المتوسطية. وقال محمد أبو القاسم إن ضم الجنوب للشمال ليس أول ولا آخر تخبط البريطانيين ومفاجأتهم الإدارية في بحر جدل التراكيب المتلاطم الذي "يستمر به السودان متحركاً بصيرورة تحكمها ماهيته الجدلية".

"السودان: المأزق التاريخي" علم من التاريخ لم يقع لنا شيء من بابه. وهو علم سيبقي بركة فينا وصدقة يتفيأ بها أخونا محمد ظلاً ظليلاً بين عباد ربه العلماء.