Post: #1
Title: كيف يخرج السودان من ورطة حكم الإسلاميين المسلّح إلى مشروع تأسيس الدولة الجديدة كتبه احمد التيجاني س
Author: احمد التيجاني سيد احمد
Date: 11-11-2025, 03:11 AM
03:11 AM November, 10 2025 سودانيز اون لاين احمد التيجاني سيد احمد-ايطاليا مكتبتى رابط مختصر
د. أحمد التيجاني سيد أحمد – ١٠ نوفمبر ٢٠٢٥
ما يجري في السودان اليوم ليس حربًا بين جيشين متقابلين، بل هو حكمٌ مسلّحٌ تمارسه الحركة الإسلامية بوجوهٍ مختلفة. فبعد سقوط البشير، لم تغادر السلطة يد النظام القديم، بل غيّرت فقط شعارها وبدّلت واجهاتها، بينما بقي جوهر السيطرة على حاله: احتكار المال والإعلام والجيش. اللجنة الأمنية التي أطاحت بالبشير كانت امتدادًا لنظامه، وفلول النظام السابق احتفظوا بمفاتيح الدولة من وراء ستار.
منذ ذلك الوقت، تحوّل السودان إلى مسرحٍ هائلٍ للتضليل. القنوات المموّلة من أموال الحركة الإسلامية، من منافذ إعلام العربية والجزيرة إلى عشرات الصفحات المأجورة على وسائل التواصل، صارت تروّج لانتصاراتٍ زائفة بينما يسقط المدنيون جوعًا وقصفًا ونزوحًا. الصور القديمة تُباع كحقائق جديدة، والخطاب الديني يُستعمل لتبرير الدمار باسم الدفاع عن الوطن. إنها ليست حربًا من أجل السودان، بل حربٌ من أجل البقاء في الحكم. فالإسلاميون لا يقاتلون خصومهم فقط، بل يحكمون بالحرب نفسها. يُديرون الإعلام، ويحتكرون الموارد، ويستغلّون الجيش وأجهزة الدولة كأدواتٍ لإدامة سلطتهم.
أمام هذا الواقع المرير، يقف السودان اليوم على مفترقٍ مصيريٍّ حادّ. فإما أن يستمر هذا الحكم المموّه الذي يرفع شعار الوطنية ليخفي سلطته الدينية، أو يطفو إلى السطح حكمٌ عسكريٌّ صِرف لا يختلف عن الأول إلا في اللغة والشكل. وفي حال غياب مشروع وطني جامع، يلوح خطر التفكك والانقسام، حيث تنشأ سلطاتٌ محلية تملأ الفراغ وتُعيد إنتاج الفوضى. غير أن الطريق الرابع، وهو الأصعب والأكثر صدقًا، هو طريق مشروع التأسيس: إعادة بناء السودان بدستورٍ فدراليٍّ علماني عادلٍ، وعدالةٍ انتقاليةٍ تنهي الإفلات من العقاب، وجيشٍ قوميٍّ موحّدٍ تحت قيادةٍ مدنيةٍ منتخبة.
هذا المشروع لا يقوم على البندقية وحدها، بل على الوعي والشرعية الجديدة التي تكتسبها البندقية حين تتحوّل من أداة حرب إلى وسيلة تحرير. فكل مدينةٍ تُحرَّر من قبضة الإسلاميين هي لبنة في بناء الشرعية الوطنية الجديدة. وحين تُرفع راية السودان على الأبيض والدبة وزنقات ووادي حلفا وكسلا وبورتسودان والخرطوم والجزيرة وسنار، و عطبرة و شندي و الكرمك و قيسان ؛ فذلك لا يعني نصرًا عسكريًا فحسب، بل عودة الوعي الجمعي للشعب الذي أُريد له أن يعيش منقسمًا ومقهورًا.
إن بندقية التأسيس تختلف عن كل ما سبقها. فهي بندقية وعيٍ ومسؤوليةٍ وطنيةٍ تعرف متى تُقاتل ومتى تضع السلاح. بندقية لا تكتب الدستور، لكنها تحرسه. إنها الأداة التي تعيد التوازن بين السلاح والعقل، بين القوة والحق. فمشروع التأسيس لا يسعى إلى إلغاء الحرب فحسب، بل إلى تجاوزها نحو سلامٍ يستند إلى العدل والتمثيل لا إلى الغلبة والانتصار.
ومع تحقق التحرير، تبدأ المرحلة الحقيقية لبناء الدولة. فالسودان لا يُستعاد بالشعارات ولا بالبيانات، بل بالأفعال التي تُعيد الحياة للناس. حين تتحرّر المدن، تُفتح المدارس والمستشفيات وتُعبد الطرق و تومن الشرطة حياة المواطنين وتُستأنف الزراعة، لأن معنى النصر الحقيقي هو عودة الحياة، لا تبديل الرايات. في هذه المرحلة الدقيقة يتكامل العمل بين القيادة السياسية لتحالف تأسيس والسلطة التنفيذية الميدانية. ويبرز هنا دور الوزير عز الدين الصافي في تنسيق الجهود الإنسانية والإدارية، بين لجان الإغاثة والمجالس المحلية والمؤسسات الخدمية، لتأمين احتياجات المواطنين من ماءٍ وغذاءٍ وعلاجٍ وتعليمٍ. فليس هناك تحريرٌ بلا إنقاذٍ للمدنيين، ولا شرعيةَ بلا حياةٍ كريمةٍ للمواطن.
وفي هذا السياق، يبدأ الدور الحاسم للقطاع الزراعي في صناعة السلام وترسيخ الاستقرار. فمرحلة الإنعاش الزراعي تمثل الجسر بين التحرير والبناء، إذ تعيد الحياة إلى الريف وتفتح الطريق أمام عودة النازحين واستقرارهم في مناطقهم الأصلية. الزراعة هنا ليست مجرد نشاطٍ اقتصادي، بل فعلٌ وطنيٌّ جامع يُجسّد الملكية الوطنية في التخطيط والتنفيذ، ويُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع من خلال مشاركةٍ مجتمعيةٍ واسعة في جميع مراحل المشروع. إن ربط الزراعة بعملية بناء السلام المجتمعي يعني تحويل الأرض إلى مساحةٍ للتلاقي لا للتنازع، وإدارة الموارد الطبيعية بشفافيةٍ ومسؤوليةٍ وفق معايير الحوكمة الزراعية الرشيدة. كما أن التركيز على الفئات الهشة — النساء والشباب والنازحين العائدين — يُعيد دمجهم في دورة الإنتاج والحياة، فيصبح الحقل ميدانًا للسلام قبل أن يكون مصدرًا للغذاء. وهكذا تتحوّل الزراعة من قطاعٍ اقتصادي إلى ركيزةٍ للشرعية والتنمية، ومن وسيلةٍ للعيش إلى وسيلةٍ لبناء الوطن من جديد.
حين تستقر المدن وتُستعاد الخدمات الأساسية، يبدأ الامتحان الأكبر: امتحان بناء النظام الفدرالي وترسيخ الدولة العادلة. فبناء الدولة لا يبدأ من القصر الرئاسي، بل من المدرسة والمستشفى. من هنا تُعاد هيكلة السلطة على أسس العدالة والتمثيل، وتُنتخب المجالس الإقليمية، ويُعاد توزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم. في هذه العملية يُعلن الدستور التأسيسي الدائم، الذي يجعل الخرطوم عاصمة اتحادية لجميع السودانيين، بينما يتيح لكل إقليمٍ اختيار عاصمته وإدارته المحلية بما يعبّر عن خصوصيته وهويته.
إن السودان الجديد الذي ينشده مشروع التأسيس هو دولة عقلٍ وعدلٍ ومواطنة، لا دولة شعاراتٍ أو عقائد. دولة تُحرَّر بالبندقية الواعية، وتُبنى بالإدارة الرشيدة، وتُحكم بالدستور الذي يعبّر عن الشعب لا عن نخبةٍ أو حزب. هذا هو الطريق الوحيد للخروج من الورطة التي صنعها الإسلاميون بالحرب، الطريق نحو وطنٍ مدنيٍّ فدراليٍّ تحكمه المواطنة لا الأيديولوجيا، وتُحرس فيه البنادق الدستور بدل أن تكتبه.
فالسودان لن يُنقَذ بالوعود، بل بالتحرير والعون والدستور، وبإرادة شعبٍ قرّر أن يفتح من تحت الرماد بابًا جديدًا للتاريخ.
البريد الإلكتروني: [email protected]
|
|