محمد أبو القاسم حاج حمد: ما سر النقطة في منتصف النهر؟ (2-3) كتبه عبد الله علي إبراهيم

محمد أبو القاسم حاج حمد: ما سر النقطة في منتصف النهر؟ (2-3) كتبه عبد الله علي إبراهيم


11-10-2025, 02:23 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762741391&rn=0


Post: #1
Title: محمد أبو القاسم حاج حمد: ما سر النقطة في منتصف النهر؟ (2-3) كتبه عبد الله علي إبراهيم
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 11-10-2025, 02:23 AM

02:23 AM November, 09 2025

سودانيز اون لاين
عبدالله علي إبراهيم-Missouri-USA
مكتبتى
رابط مختصر







(من كتابي "الثقافة السودانية: خارطة طريق، الجزء الثاني، عرض لنصوص مركزية، تحت التحرير)

كان محمد أبو القاسم حاج حمد ممن استحبوا الهدى علي الضلالة. وفي مثل هؤلاء المستحبين ولع بالضرب على أكباد الإبل الي مظان المعرفة. وهذا منشأ رحلة فقيدنا، وهو في ميعة الصبا، إلى بيروت في منتصف الستينات. أو هي مخاطرته بالأحرى. فلم يطلب من رحلته شهادة "تجهيزية" تجعله أفندياً في جهاز الدولة كما خطط الإنجليز لكلية غردون أن تكون لخريجيها. ولم يطلب بعثة حزبية كما طلبها طلاب اليسار سفراً الي المعسكر الاشتراكي العظيم. وكان الحزب الشيوعي، سادن هذه البعثات، يريد لهم علماً بهذه المغامرة الإنسانية في طلب العدل والإحسان. وقد خابت يا سبحان الله. وعاد أكثرهم بشهادة يبتغي رزقاً أفندياً مضموناً. استبد الشغف بمحمد أن يكون حيث منبع الأفكار القومية العربية التي تلقاها من كتب يقتنيها من مكتبة حامد المطري بمحطة الخرطوم الوسطي. بل وكتب محمد كتابه الأول عن القومية العربية ولم يكد يكمل تعليمه الثانوي. وسفر محمد هذا إلى الشام أثر من وهج الشلالات تستبد بنا فنقصدها لنري انبثاق النهر. وتعشى عيون السفار من وهجها ولكن تغلبهم أشواقهم ليقفوا على شهادة موثقة علي ميلاد النهر.
كان ممن قرأ محمد لهم ساطع الحصري. وهو الذي قعّد للقومية العربية بينما مارستها مصر على عهد الناصرية كدحاً وسليقة. ولهذا اختار محمد أن يكون على ضفة فكرة القومية العربية في الشام لا على ضفة ممارستها في مصر برغم إغراء مصر الأزلي لطلاب العلم من السودانيين.
يري ساطع الأمة كجماعة من الناس تآلفت بصورة متضامنة بروابط اللغة والتاريخ. وقد استقى مفهومه هذا عن المدرسة الالمانية الثقافية الرومنطيقية. وهي مدرسة أرادت بعث المشاعر التي اعتقدوا برسوخها في وجدان قومهم لتلهمهم وتشد من أزرهم في طريق الوحدة الوطنية. والوجود القومي عند هؤلاء محض فيض من الطبيعة غاية في البراءة والطزاجة. واتفق ساطع معهم بأن الأمة كيان روحي. وفارقهم بالطبع في أنه لم ير القومية العربية، التي افتخر بها، طرفاً في نظام للعنجهية العرقية التي تتأبط مهمة تمدينية على النطاق العالمي. وهذه خطة القوميين الألمان. ومنها خرجت علينا الصهيونية لما لم يجد اليهود في كنف مثل هذه القومية سوى الزجر والضيم وسكنى بيوت الكرتون الأوربية. ولما ضاقوا اصطنعوا قومية لهم وبحثوا عن وطن لهم في فلسطين. وهذا أصل المسألة. ولن تصح قراءتنا له بغير درس حصيف لأفكار القوميين الألمان من لدن هيردر الفلكلوري الي هتلر "الألماني" كما قالت الأغنية السودانية.
وقد أشاد ساطع مفهومه للقومية على نهج العلمانية خلافاً للألمان الذين ارتبطوا بإله متعال (ليس بالضرورة إله المسيحيين) يهدي خطوهم في سكة التقدم. وقد جادل ساطع رأي الدكتور طه حسين في "مستقبل الثقافة المصرية" من هذا الوقع العلماني. فقد تبنى طه دعوة المتوسطية (ثقافة البحر الأبيض المتوسط) كهوية لمصر لأنه رأى أنه لا وحدة الدين ولا اللغة مما تقوم به الأمة في عصرنا. ووافق ساطع المرحوم طه حول أن الدولة لا تحتاج الي رابطة الدين، ولكنها لن تقوم بغير رابطة اللغة. وهي الرابطة التي أنكرها طه حسين بجعل مصر في الرابطة المتوسطية وهي خليط لغات وأقوام.
ينظر محمد الي تركيب السودان القائم كحقائق تاريخية لا وساوس حاكمين أو مقاصد اعتباطية لهم. فهو يري أن ارتباط السودان بالشمال المتوسطي (من البحر الأبيض المتوسط) هو نتيجة للغزو التركي الذي وطن السودان "ضمن الحيز الاستراتيجي لصراعات القوى في هذه المنطقة وعبر مصر." وهو ينسب للدولة التركية تحديدها (دون غيرها مثل الطرق الصوفية) شخصية الكيان السوداني. فالسودان عنده جماع أفريقيا والمتوسط. والمتوسط في رأي محمد هو مصر غالباً وفيه باكورة صلة السودان بالقومية العربية المعاصرة.
لايري محمد نفعاً في قولنا بالقومية السودانية أو الأفريقية أو حتى العربية. فالقول بقومية سودانية لا يستوعب السودان لأنها أصغر منه. كما لا تستوعبه "قومية أفريقية" لأنها تلغي الدائرة المتوسطية التي تتنفس حية برئة قوية في السودان. كما أن القومية العربية نفسها تستلب نفسها إن قصرت السودان عليها. فهي ليست سوي تعبير متوسطي. ولما لم يعد للسودان عرقاً يأوى اليه في وعثاء الهوية تعلق محمد بالشق الروحي للوجود القومي في القومية الألمانية الرومانسية برواية ساطع. فمحمد يسرف رومانسياً بقوله:
"فنحن كما نحن أي كما شاء الله لنا غيباً وكما شاء لنا في تاريخنا الإنساني وكما شاء لنا موقعنا الطبيعي... إنها إرادة الله المطلقة المتداخلة مع حركة الإنسان النسبية عبر التاريخ ومع الحركة الطبيعية الجبرية عبر الموقع والخصائص".

فهو يري فكرة (أو نص) السودان قائمة فينا منذ الأزل. فقد التقينا فيه على قدر ميزته الآية الكريمة: "وكل شيء قدرناه تقديرا". فالسودان أشبه بدائرة تستقطب أهل الجهات الأربع. ويتساءل: "هل من دائرة بمحيط ولا مركز؟" وأجاب بلا، لأن مركز دائرتنا هو "كرتوم" التي هي ملتقى النهرين في لغة النوبة. وبلغة الصوفية فتلك النقطة في مركز الدائرة هي نقطة الباء الحاوية على الأسرار الإلهية." وتساءل: ما سر النقطة في ملتقي النهرين؟ وهو يري السودان بذلك ثمرة ضرورة "غيبية-إنسانية-طبيعية" إذا تداعي منها جسد سهر له سائر الجسد بالأرق والحمى.
ولذا كان محمد علمانياً في مفهومه للقومية السودانية مثله مثل ساطع. ولكنه لما لم يجد رباط اللغة وثيق العرى في السودان وثوقه بين العرب فارق أستاذه ساطع ولم يجعل معيار اللغة سبباً لقومية السودانيين. ولأنه لم يبق للسودان من عرى ثقافية او عرقية يأوي اليها كقومية جامعة، رأي محمد أن يركز قومية السودانيين على التاريخ. ومكّن لذلك بالاستفاضة في فكرة القومية كوجود روحي تاريخي وطبيعي كما لم يفعل أستاذه ساطع. وهو ما فعله الألمان. وساقه هذا الوجد الفكري الي النظر للقومية السودانية كوحدة وجود صوفية الأشواق. وهذا منشأ مفهوم محمد للسودان كتكوين قائم على جدل المتوسطية وأفريقيا الغربية. وهو جدل لا فكاك لنا منه ولو كره دعاة تفكيك البلد.