الهدنة المسمومة.. إنقاذٌ للمليشيا كتبه د. ياسر محجوب الحسين

الهدنة المسمومة.. إنقاذٌ للمليشيا كتبه د. ياسر محجوب الحسين


11-10-2025, 02:18 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762741115&rn=0


Post: #1
Title: الهدنة المسمومة.. إنقاذٌ للمليشيا كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 11-10-2025, 02:18 AM

02:18 AM November, 09 2025

سودانيز اون لاين
د. ياسر محجوب الحسين-UK
مكتبتى
رابط مختصر



أمواج ناعمة









تتصاعد في الأفق أنباء عن هدنة محتملة في السودان تمتد لثلاثة أشهر، تُطرح تحت لافتة «إيصال المساعدات الإنسانية»، لكنها في الواقع تُخفي خلفها شبكة معقدة من المصالح، والضغوط الدولية تقف وراءها ما يُعرف باللجنة الرباعية الدولية.

المشهد الراهن لا يحتمل قراءة سطحية، فالحديث عن هدنة ليس مجرد نقاش حول إيقاف القتال مؤقتاً، بل خطوة سياسية وأمنية قد تُعيد ترتيب موازين القوى ميدانياً، وتؤثر على مجمل مسار الحرب ويمكن تحليل المشهد كما يلي:

أولا: الهدنة كأداة لإعادة التموضع، فالجيش السوداني، منذ اندلاع التمرد في أبريل 2023، خاض معركة طويلة ومعقدة، استعاد فيها العاصمة الخرطوم، وكسر شوكة المتمردين في ولايتي الجزيرة وسنار، محققاً مكاسب استراتيجية واضحة. غير أن سقوط مدينة الفاشر مؤخراً مثّل منعطفاً حساساً أعاد إلى الواجهة محاولات تدويل الصراع. في هذا السياق، تأتي الدعوات للهدنة كأنها مبادرة إنسانية، لكنها عملياً تمنح مليشيا الدعم السريع المتمردة فرصة لالتقاط أنفاسها وترميم قدراتها المنهكة.

من التجارب السابقة، فإن الهدن المتكررة كانت منفذاً لتسلل الإمدادات الخارجية، وتحوّلت قوافل الإغاثة في بعض الحالات إلى غطاء لتهريب السلاح والمرتزقة. هذا النمط من «الاستغلال الإنساني» ليس جديداً في النزاعات الإفريقية، وغالباً ما يؤدي إلى إطالة أمد الحروب بدل إخمادها.

ثانيا: انعكاسات الهدنة على الجبهة الداخلية.. إن الالتفاف الشعبي حول القيادة العسكرية شكّل خلال الفترة الماضية رصيداً استراتيجياً للجيش. هذا الالتفاف لم يكن وليد الدعاية أو الشعارات، بل نتاج معاناة عميقة عاشها المواطنون في مناطق النزاع، حيث واجهوا القتل والنزوح والنهب والانتهاكات الواسعة التي سارت بها الرياح ولم تنقض عجائبها. لذلك، فإن أي استجابة غير محسوبة لضغوط هدنة غير مضمونة العواقب قد تُفهم داخلياً كتنازل عن وعود الحسم الكامل للتمرد، وهو ما يهدد الثقة الشعبية في القيادة ويضعف سرديتها الوطنية.

إن قبول هدنة من دون ضمانات صارمة سيُفسَّر كاعتراف ضمني بالمتمردين، ويُضفي عليهم شرعية سياسية وأخلاقية غير جديرين بها على الإطلاق، ويحوّلهم من فاعلين عنف إلى شركاء محتملين في ترتيبات سلام مفتعل. من زاوية التحليل السياسي، هذا النوع من التحولات الرمزية يُعدّ أخطر من المكاسب الميدانية ذاتها، لأنه يُعيد تعريف طرف الصراع أمام المجتمع الدولي، ويفتح الباب لتدويرهم كقوة مشروعة في المستقبل.

ثالثا: الأبعاد الإقليمية والدولية؛ لا يمكن فصل أي هدنة عن السياق الدولي المحيط بها. فالقوى الغربية، وعلى رأسها واشنطن، ترى في استمرار الحرب خدمة لمصالحها المستندة على استعمار حديث، وتسعى في ذات الوقت إلى معالجة الأزمة بأدوات الضغط الإنساني لا بالاعتراف بجذورها بالضرورة.

الهدنة، في هذا المنظور، قد تُستخدم لفرض تسوية سياسية تُعيد إنتاج المليشيا كفاعل شرعي، بما يتيح للدبلوماسية الغربية مساحة للتدخل في صياغة مستقبل الدولة السودانية. هذه الصيغة تضع سيادة السودان على المحك، وتجعل من المساعدات الإنسانية مدخلا لتقويض استقلال القرار الوطني.

كما أن طول أمد الحرب يمنح بعض القوى الاخرى مساحة أكبر للمناورة، سواء عبر تمويل أطراف محددة أو تسهيل مرور الدعم اللوجستي. وهنا يصبح السؤال الجوهري: هل ستساهم الهدنة في إنهاء الحرب فعلاً، أم أنها ستخلق «حرباً مؤجلة» أكثر تعقيداً واتساعاً؟

رابعاً: شروط انهاء الصراع؛ إن التحليل الموضوعي لا يرفض فكرة التهدئة من حيث المبدأ، بل يضعها ضمن معادلة واضحة: الهدنة لا تكون حلا ما لم ترتبط بشروط تحقق المصلحة الوطنية العليا. أول هذه الشروط هو وجود آليات رقابة فعالة ومستقلة تضمن أن المساعدات تصل للمدنيين لا للمليشيا. ثانيها، استمرار الضغط العسكري والسياسي حتى خلال فترات الهدوء، بما يمنع الخصم من استغلال الفراغ الزمني لإعادة تنظيم صفوفه. وثالثها، أن تكون أي ترتيبات تفاوضية لاحقة نابعة من الداخل السوداني، وليست مفروضة من الخارج تحت مسمى «المجتمع الدولي».

هذه المعادلة تضع القيادة أمام خيار واضح: إمّا وقف لاطلاق النار يلزم التمرد بالاستسلام لإرادة الدولة بما يضمن ويرسخ استمرار تفوق الدولة وتدعيم مؤسساتها، أو هدنة مفروضة تُعيد الأزمة إلى نقطة الصفر.

خامسا: الثبات كاستراتيجية؛ لا شك أن اللاءات الثلاث التي أعلنها رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان- لا لتفاوض مفروض، لا لإعادة إنتاج المليشيا، لا لمنح شرعية سياسية للمتمردين- ليست مجرد شعارات سياسية، بل تمثل إطاراً استراتيجياً للحفاظ على تماسك الموقف الوطني.

الخلاصة أنه في لحظة الصراع الراهنة، لا تكمن خطورة الهدنة في مدتها الزمنية، بل في مضمونها السياسي. هدنة غير مشروطة قد تُعيد تشكيل المشهد بطريقة تُقوّض ما تحقق من إنجازات ميدانية وتزرع بذور نزاع مستقبلي. أما التمسك بالموقف الرافض دون تهاون، فهو ليس خياراً عاطفياً بل قراءة عقلانية لميزان القوى ولمخاطر التنازل في منتصف الطريق.

إن السودان اليوم أمام اختبار سيادة وإرادة، والقيادة السياسية والعسكرية مطالبة بإدارة هذا التحدي بقدر عالٍ من الصبر والحكمة. فالنصر لا يتحقق فقط في ميادين القتال، بل أيضاً في القدرة على قراءة المشهد الدولي وتجنّب فخاخ التسويات الناقصة.

الهدنة، إذا لم تُبنَ على أسس وطنية صلبة، ستكون كالأمواج الناعمة: تبدو هادئة على السطح، لكنها تُخفي تيارات عميقة قادرة على جرّ البلاد إلى قاع الفوضى.