Post: #1
Title: عودة إلى مقهى تَكّة في انتظار الاستنارة – العبور إلى الظلّ,, كتبه الأمين مصطفى
Author: الأمين مصطفى
Date: 11-10-2025, 02:17 AM
02:17 AM November, 09 2025 سودانيز اون لاين الأمين مصطفى-السودان مكتبتى رابط مختصر
كانت الرائحة الأولى التي استقبلته هناك مزيجًا من البنّ المحترق والياسمين الذابل. لم يكن يعرف من أين يأتي الضوء، لكن كل شيء كان يلمع على نحوٍ غامض، كأنّ المقهى تنفّس من جديد بعد قرونٍ من الصمت. الدفتر الأسود في يده صار أثقل، وكأنّ صفحاته امتلأت بأنفاسٍ لا تُرى. تقدّمت هي أمامه، تمشي بخطواتٍ لا تُحدث صوتًا، ومع كلّ خطوة كانت الأرض تحتها تبرق كمرآةٍ تتفتّح فيها صورٌ سريعة: وجهه وهو يكتب، المقهى حين كان مزدحمًا بالضحك، ومشهدٌ آخر... قبرٌ مبلولٌ باسمٍ يشبه اسمه. توقّف. قالت بصوتٍ خافتٍ كالموسيقى القادمة من آخر حلم: – "لا تخف. هذا ليس موتًا، بل بداية الطريق إلى ما بعد الحكاية." اقترب منها حتى صار يسمع خفقان قلبها يشبه دقات ساعةٍ مقلوبة. رفع الدفتر بينهما، وقال: – "لكنّي لا أذكر أني كتبت النهاية بعد." ابتسمت، تلك الابتسامة التي يعرفها أكثر من ملامحه، وقالت: – "النهايات لا تُكتب، بل تُوقَظ." وفجأة، انفتح الدفتر من تلقاء نفسه. الكلمات كانت تتحرك على الورق، تتلوّى كأنها كائنات حيّة تبحث عن مخرج. ثم تجمّعت في سطرٍ واحدٍ ارتجف بالحبر الأحمر:
"حين يلتقي القلب بالحبر، تبدأ الاستنارة بالدم."
شعر بحرارةٍ تسري في أصابعه. نظر إليها، فكانت عيناها تشتعلان بضوءٍ أزرق غريب، كبحرين يبتلعان القمر. قالت بصوتٍ لم يعد يشبهها: – "اختر الآن: إمّا أن تكتبني، أو تتركني أكتبك." في تلك اللحظة، ارتجف المقهى كلّه. الكراسي تراجعت إلى الوراء كأنّها تهرب، والنوافذ انفتحت على مشاهد من عوالم أخرى: شارعٌ مغطّى بالرماد، صبيٌّ يضحك بلا وجه، مرآةٌ تُظهر ظلالًا تتنفس. ومن خلفها، ظهر هو الآخر... نسخةٌ منه، بنفس الملامح، لكن بعينين بلا بريق. قالت هي: – "الكاتب والظلّ، لا يكتمل أحدهما دون الآخر." الظلّ ابتسم وقال بصوتٍ أجوف: – "لقد كتبتني منذ أول سطرٍ في المقهى... والآن دوري لأكتبك." أحسّ بدمٍ دافئ يسيل من أطراف أصابعه على الورق. كلّ حرفٍ يكتبه كان يتحوّل إلى وميضٍ يطير حولهما كشراراتٍ من ليلٍ مقدّس. ومع آخر كلمة كتبها – "العبور" – انفجرت الشمعة في منتصف الطاولة، وانسكب منها ضوءٌ لا يُحتمل. حين أفاق، كان المقهى خاليًا، لا صوت فيه إلا الراديو القديم. دار مقبضه ببطء، وخرج منه بثٌّ مشوّش وصوت امرأةٍ تقول:
"مرحبًا بكم في حلقةٍ جديدة من الاستنارة... الليلة نستضيف الكاتب الذي كتب نفسه حتى النهاية."
نظر حوله، فلم يجد أحدًا. إلا أن الدفتر أمامه كان مفتوحًا على صفحةٍ جديدة، مكتوبٌ في أعلاها بخطٍّ ليس خطّه:
الجزء vix – حين يعود الضوء من العدم.
وفي زاوية الصفحة، بخطّها هي:
"لا تطفئ الشمعة... فالظلال لم تنتهِ بعد."
وخارج المقهى، كانت المدينة تضيء من تلقاء نفسها، كأنّها تقرأ معه الفصل القادم.
,,,,,,
|
|