Post: #1
Title: ما الذي يصيب الأديان حين يحتكرها الساسة؟ كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد
Author: احمد التيجاني سيد احمد
Date: 11-10-2025, 00:24 AM
00:24 AM November, 09 2025 سودانيز اون لاين احمد التيجاني سيد احمد-ايطاليا مكتبتى رابط مختصر
– ٩ نوفمبر ٢٠٢٥
بعد أن تعلّمت أوروبا الدرس من التجربة المُرّة التي أحالت الإيمان إلى ساحة صراعٍ سياسيٍّ دامٍ، خرجت من حروبها ودمارها بحكمةٍ واحدة: أن تبتعد عن الأديان حين يتعلّق الأمر بإدارة الدولة.
فالدين، في تباشير رسالته، يكون طاقةً روحيةً أخلاقية، تُضيء الضمائر وتُعيد للإنسان اتزانه أمام الكون والخالق. لكن ما أن يقترب منه الساسة، حتى يتحوّل من نداءٍ للرحمة إلى أداةٍ للقوة، ومن دعوةٍ إلى الخير إلى مشروعٍ للسيطرة.
الدين له قيمة اجتماعية وإنسانية عظيمة حين يكون في لحظات النقاء الأولى، حين يكون صوتًا للضعفاء، لا وسيلةً في يد الأقوياء. لكن عند اكتمال الرسالة، يصبح شأنًا فرديًا بين الإنسان وربّه، لا مجال فيه للوصاية أو التشريع السياسي.
فلو أراد الله أن يجعل من الدين مشروعًا يتجدّد على أيدي البشر، لكتب على رسله الخلود أو منحهم ذريةً تتوارث الرسالات جيلًا بعد جيل. لكن الحكمة الإلهية كانت في الاكتمال لا في التوريث؛ فما أن تُختَم الرسالة حتى تنتهي مهمة الوحي، ويُترك للعقل البشري أن يبني على هديها لا أن يحتكرها.
ولهذا فالدين لا يُجدَّد، لأن الرسالات قد اكتملت. وما يُجدَّد اليوم هو الفهم الإنساني للدين، لا الوحي الإلهي الذي بلغ غايته.
أما حين يتقمّص الساسة دور الأنبياء، فإنهم لا يُجدّدون الدين، بل يبتذلونه، ويحوّلونه إلى منظومةٍ سلطويةٍ تبحث عن الولاء لا عن الإيمان.
لقد شهد التاريخ البشري مرارًا كيف تتحوّل الأديان إلى أنظمة قمعٍ باسم الخلاص:
-حدث ذلك في أوروبا المسيحية حين تحالفت الكنيسة مع الملوك،
-وفي العالم الإسلامي حين رُفعت السيوف باسم الشريعة، -وفي الهندوسية والبوذية حين صارت الطقوس غطاءً للتراتبية الطبقية، -وفي اليهودية السياسية حين تحوّلت إلى مشروعٍ استيطانيٍّ يسلب الأرض باسم الوعد الإلهي.
في كل مرةٍ يتلاقى فيها الكاهن والحاكم، يُصلب الإنسان مرتين: مرةً باسم الإله، ومرةً باسم الوطن.
إن الحرية الفكرية والسياسية التي سمحت لأصواتٍ كثيرة — مسلمةٍ أو مسيحيةٍ أو يهوديةٍ أو غيرها — أن تعبّر عن رؤاها بصدق، هي ثمرة الدولة العلمانية الحديثة التي تفصل بين الدين كضميرٍ، والدولة كسلطةٍ، وتحترم الأديان جميعًا دون أن تضع أحدها في موقع التشريع. فلو كان الحكم في نيويورك أو باريس أو روما أو نيودلهي بيد طاغيةٍ دينيٍّ، لما سُمِع لصوت المختلفين، ولما استطاع مؤمنٌ أو مفكرٌ أن يقول: هذا ليس طريق الله، بل طريق السلطان.
الدين حين يكتمل، يُصبح طريقًا إلى الضمير لا إلى البرلمان، ويظل نوره في القلوب، لا في مؤسسات السلطة. ومن لم يفهم ذلك، يظل يدور في حلقة التاريخ المفرغة، حيث تُقتل الرسالات بأيدي من يزعمون أنهم ورثتها.
ليس الخطر في الإلحاد، بل في تديين السلطة وتسليح الإيمان. فمن يستخدم الدين ليُخيف به الناس، قد جعل من الله جدارًا يفصل الإنسان عن الحرية التي أرادها له الخالق. والذين يقتلون أو ينهبون أو يكذبون باسم الله، لا يمثلون الدين، بل يمثلون الرغبة القديمة في امتلاك المقدّس.
لقد آن لنا أن نفهم أن الدين، في جوهره، لا يحتاج إلى حماية الدولة، بل إلى صدق الإنسان. وحين تتحرّر الأديان من قبضة الساسة، تعود إلى جوهرها الأول: إلى الإخاء، إلى الرحمة، إلى معنى الوجود.
فالدين الذي لا يحرّر الإنسان من الخوف، هو خوفٌ مُقدّس، لا إيمانٌ مُستنير. وحين يتحرّر الإيمان من سطوة السلطة، تتطهّر السياسة من الزيف، ويستعيد الإنسان وجهه في مرآة الله — وجهًا حرًّا، عاقلًا، محبًّا، ومسؤولًا.
الدين حين يكتمل، يحرّر الإنسان من الخوف، والسياسة حين تتطهّر، تحرّر الدولة من الكذب.
البريد الإلكتروني: [email protected]
Sent from my iPhone
|
|