Post: #1
Title: الجنجويد ليسوا قبائل… بل أبناء غضبٍ قديم كتبه الصادق حمدين
Author: الصادق حمدين
Date: 11-08-2025, 11:20 PM
11:20 PM November, 08 2025 سودانيز اون لاين الصادق حمدين-UK مكتبتى رابط مختصر
مدخل تمهيدي؛ في خضم الجدل الدائر حول مصطلح الجنجويد ودلالاته السياسية والاجتماعية، يبرز سؤال جوهري طالما تم تغيّبه عمدا عن النقاش العام: من هم حقًا الجنجويد؟ أهي قبائل بعينها كما يُروَّج في الخطاب الإعلامي الرسمي والشعبي، أم أفرادٌ خرجوا عن منظوماتهم القبلية في لحظة تمرّد على الأعراف والتقاليد المرعية؟
هذا المقال يحاول إعادة النظر في جذور المصطلح وتطوره، واضعًا الظاهرة في سياقها التاريخي والاجتماعي بعيدًا عن ضجيج السياسة وغوغائيتها، وأحكام التعميم المُخل.
من الملاحظ أن مصطلح الجنجويد شهد تحولًا دراماتيكيا من مفهوم اجتماعي تقليدي إلى ظاهرة معاصرة، وذلك عبر مراحل تاريخية متعددة ومنعطفات زمنية مختلفة.
إن هذا المصطلح لم يكن حديث النشأة كما يُشاع في الخطاب السياسي والإعلامي التحريضي، بل تعود جذوره إلى وصف اجتماعي ارتبط بمجموعة من الشباب الذين خرجوا عن أعراف وتقاليد قبائلهم في المجتمع السوداني القديم.
كان هؤلاء الشباب يتمردون على النظام القبلي الصارم وهرميته التقليدية، فيرفضون الخضوع لسلطة الشيوخ، والعمد، والشراتي، والزعماء، والنظار، ويفضلون الانعزال في الصحارى والمغارات أو الهجرة إلى المنافي البعيدة، حيث يعيشون حياة الحرية المطلقة بعيدًا عن القيود الاجتماعية والتزاماتها.
لقد جاءت تسمية الجنجويد في سياقات لاحقة مرتبطة بالحروب والنزاعات المسلحة، إلا أن ربطها المباشر بالتحركات السياسية والعسكرية لم يكن له أصل ثابت، بل كان إلى حد كبير نتاجًا لتأويلات من أطلقوا هذا الوصف وأعطوه بعدًا جديدًا يخدم أغراضهم السياسية، التي تستمد مرجعيتها من سياسة فرق تسد.
وإذا عدنا إلى الأصل اللغوي والاجتماعي للمفهوم، نجد أن الجنجويد وُصفوا بأنهم “شذّاذ آفاق”، وهو وصف تحقيري يُستخدم للإشارة إلى الخارجين عن القانون أو النظام العام، على نحوٍ يُشبه ما عُرف في التراث العربي القديم بـ الصعاليك، مثل الشنفرى، وتأبط شرًّا، وعروة بن الورد، وأبي خراش الهُذلي، وغيرهم.
كان أولئك الصعاليك يعيشون على هامش المجتمع، يرفضون سلطة القبيلة ويعتمدون على الغارات والنهب كمصدر للعيش، لكنهم في الوقت نفسه مثّلوا حالة من التمرد الفردي والشعور بالكرامة والحرية.
أما “الجنجويد” في صورتهم الحديثة، فمع فارق الزمان والسياق، فقد اتخذوا منحى مغايرًا؛ إذ ارتبط سلوكهم بممارسات تدل على انحرافا أخلاقيا لا تقره مجتمعاتهم مثل شرب الخمر، ولعب الورق والمقامرة، والاعتماد على السرقات البسيطة من أجل تأمين غذائهم اليومي، والإغارة في حالات نادرة، والتخفي عن أعين السلطات وتفادي مصادمتها. وبذلك تحوّل المصطلح من دلالته الاجتماعية الأصلية إلى توصيف لمظاهر الانفلات الأمني والعسكري في مناطق النزاع.
هناك من يتناولون لفظ “جنجويد” من زاويته اللغوية البحتة، فيفسرونه بحسب بنيته الصوتية وما توحي به حروفه، مثل قولهم إنها تعني “جنّ راكب جواد حامل جيم ثري”، وهو تفسير سطحي يفتقر إلى العمق ولا ينسجم مع الدلالات الواقعية للمصطلح. في المقابل، يربط آخرون أصل الكلمة بشخص يُدعى حامد جنجويت، وهو #################### من الصعاليك المتمردين على الاعراف والقانون، يُقال إنه قاد عصابة من الصعاليك، مارست أعمال الحرابة ضد أهل القرى الدارفورية الآمنة، في ثمانينيات القرن الماضي، ناشراً الرعب بين السكان.
ورغم تعدد التفسيرات، فإنها تشترك جميعها في دلالة واحدة تقريباً، غير أن التفسير الأخير يبدو الأقرب إلى أصل الكلمة وجذورها التاريخية.
إن فهم ظاهرة الجنجويد في بعدها التاريخي والاجتماعي يساعد على تفكيك الصورة النمطية التي ارتبطت بها في السنوات الأخيرة، ويتيح قراءة أعمق لدورة نشوء وتطور هذه الظاهرة من مجموعة متمردة على الأعراف إلى أداة في صراعات السلطة والحرب بالوكالة.
إن من الخطأ اختزال مفهوم الجنجويد في قبائل بعينها، فالحقيقة أن هؤلاء لم يكونوا قبائل قائمة بذاتها، بل أفرادًا تمردوا على أعراف مجتمعاتهم وخرجوا عن سلطة قبائلهم. لذلك، لا يصح، أخلاقيًا ولا منطقيًا، تحميل جماعات بأكملها وزر أفعال قلةٍ اختارت طريق العنف والانفلات.
كما أن من جُنّدوا لاحقًا في صراعاتٍ مسلحة داخل مناطقهم، ينبغي أن تُوجَّه إليهم المساءلة بصفةٍ فردية، وفق ما ارتكبوه من أفعال وانتهاكات. فالتعميم ظلم، وتجريم الجماعات بناءً على تصرفات أفرادها يتنافى مع قيم العدالة والخلق الإنساني، ويغذي خطاب الكراهية بدل أن يعزز فرص التعايش والسلام.
إن الطريق إلى السلام لا يمكن أن يتم بنائه على الإدانة الجماعية المبنية على العدالة المشوهة، والطقس الاتهامي الانفعالي، بل على فهم الجذور الحقيقية للأزمات، والمظالم التاريخية، ومحاسبة من يستحق المساءلة بإنصاف وعدل. فالمجتمعات لا تُشفى بتجريمها، بل بإعادة الثقة إليها، وتمكينها من تجاوز جراحها. ومن الإنصاف أن يُنظر إلى ظاهرة الجنجويد لا كوصمة تُلصق بجماعة، بل كعلامة على خلل اجتماعي وسياسي عميق يحتاج إلى معالجة فكرية وإنسانية جادة.
وما لم نُفرّق بين الجاني والبريء، سنبقى أسرى للظلم باسم العدالة، وللكراهية باسم الحقيقة الزائفة التي صنعوها بأنفسهم، ويرفضون أن يروا ما وراءها.
الصادق حمدين - هولندا [email protected]
|
|