فوز زهران ممداني: انتصار الهامش على المركز في قلب نيويورك! كتبه خالد كودي

فوز زهران ممداني: انتصار الهامش على المركز في قلب نيويورك! كتبه خالد كودي


11-06-2025, 00:56 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762390569&rn=0


Post: #1
Title: فوز زهران ممداني: انتصار الهامش على المركز في قلب نيويورك! كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 11-06-2025, 00:56 AM

00:56 AM November, 05 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر






5/11/2025 ، بوسطن

ممداني: مسلم بالثقافة، علماني في الممارسة، إنساني فيا نخب السودان- علام العنطزة؟

في حدثٍ يُعيد ترتيب الخيال السياسي في أميركا والعالم، فاز زهران ممداني، المسلم الأميركي من أصول هندية–أفريقية، بمنصب عمدة نيويورك، ليصبح أول شخصٍ من خلفيةٍ مهاجرة غير بيضاء، وأول مسلمٍ علماني يقود أكثر المدن تنوعًا في العالم.
لكن الأهم من ذلك، أن هذا الفوز لا يُقرأ فقط كتحوّل انتخابي، بل كتحوّل في بنية الوعي السياسي الأميركي نفسه: انتقال من هيمنة "المينستريم- السائد" الأبيض والليبرالي التقليدي، إلى الاعتراف الكامل بأن الهامش يمكن أن يُنتج عقلًا مدنيًا، إنسانيًا، وحداثيًا بديلًا، وفي هذا درسا بليغا لنخب المركز السودانية "لو عندهم طايوق!"...

ممداني، هوية مركّبة خارج المألوف:
ينتمي زهران ممداني إلى الجيل الثالث من المهاجرين الذين تشكّلت هويتهم بين آسيا وإفريقيا وأميركا. هو ابن عائلة مسلمة من أصول هندية عاشت في شرق إفريقيا - يوغندا، ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة، حيث نشأ في كوينز، أحد أكثر أحياء نيويورك تنوعًا وطبقيًا وتناقضًا.
من هذا المحيط الاجتماعي تشكّلت شخصيته: مسلم بالثقافة، علماني في الممارسة، إنساني في الرؤية.
هو لا يخجل من انتمائه الديني، لكنه يرفض أن يُختزل الدين في سلطةٍ أو هويةٍ مغلقة. كما يرفض أن تُعرّف السياسة الأميركية عبر مركزها الأبيض وحده. فممداني لا ينتمي إلى "التيار السائد" في أي من دوائره: لا في العرق (إذ ليس أبيض-فهو ملون)، ولا في الدين (إذ انه مسلم)، ولا في الطبقة (إذ انه نشأ في بيئة عاملة)، ولا في السياسة (إذ انه اشتراكي تقدمي من خارج المؤسسة الغنية)

نيويورك – مدينة التعدد: حين يحكم الهامش المركز، وحين تظل الخرطوم أسيرة المركزية القديمة:
ليست نيويورك مجرد أكبر مدن الولايات المتحدة، بل أيقونة الحداثة العالمية ومجتمع الإنسانية المتعددة، حيث تتجاور الأديان والأعراق واللغات في نسيجٍ مدني واحد. واليوم، تقود هذه المدينة عقلية قادمة من أطراف التاريخ الإمبراطوري – عقل زهران ممداني، المسلم والعلماني، ابن الهامش الإثني والاجتماعي الذي استطاع أن يحكم مركز العالم الاقتصادي والفكري من موقع التعدد لا من موقع الامتياز.
فوز ممداني هو إعلان رمزي أن المستقبل لا يُصنع في الأبراج العالية، بل في الشوارع المزدحمة، وأن المدينة الحديثة لا تدار بالعقيدة بل بالعدالة، لا بالهوية الضيقة بل بالكرامة المشتركة!
لقد حمل برنامجه الانتخابي ملامح العدالة المادية والإنسانية اليومية، لا شعارات الهوية الجوفاء التي يتقاتل حولها السياسيون في بلادٍ أخرى. جاء مشروعه مؤسسًا على قيمٍ واضحة:
- السكن الميسور حقّ لا امتياز، فيما النخب الحاكمة في الخرطوم تهدم بيوت الفقراء والمهمشين باسم "العشوائي"، لتعيد إنتاج هيمنة طبقية–جغرافية عمرها عقود.
- النقل المجاني والمستدام، ضمانٌ للمساواة في الحركة داخل المدينة؛ أما في السودان، فالمسافرون يقطعون المسافات في الحروب والنزوح، والسلطة لا ترى فيهم إلا "عبئًا أمنياً" أو "أجسادًا فائضة."
- رفع الحد الأدنى للأجور والاعتراف بحق العمال المهاجرين في الحماية والتمثيل النقابي، بينما حكومات السودان منذ الاستقلال احتقرت العمل اليدوي، وكرّست بنيةً اقتصادية قائمة على الريع والنهب والوساطة، لا على الإنتاج والعدالة.
- توسيع التعليم والرعاية الصحية لتشمل الجميع، بمن فيهم غير المواطنين؛ بينما المناهج في السودان لا تزال تعكس هوسًا دينيًا وجهويةً عميقة، تزرع التراتب بين المواطن والمواطن، وتحوّل التعليم إلى أداةٍ للولاء لا للتنوير.
- تعزيز الفن والثقافة العامة بوصفها لغة للتعايش، فيما تُختزل الثقافة في السودان إلى شعارات رسمية أخلاقية جوفاء، ويُستبدل الإبداع بفقه الكراهية، والفكر النقدي بخطب الدعاة الجهلة!

بهذا المعنى، لم يكن فوز فواز ممداني انتصارًا شخصيًا، بل انتصارًا للعلمانية العادلة بوصفها مشروعًا إنسانيا.
لقد جعل من نيويورك مختبرًا للتجربة الإنسانية الحديثة: مدينة لتُدار بتعددها، وتُصلح واقعها بالاعتراف بالآخر، وتُعيد تعريف الحداثة بوصفها شراكة لا استعلاء.
أما السودان، فما زالت نخبه تحرس الماضي وتخاف المستقبل، متحصنةً خلف شعارات دينية وقومية خاوية، رافضةً أن تتعلم من درسٍ بسيطٍ قدمه الهامش في قلب الإمبراطورية:
أن العلمانية هي أرقى أشكال الإيمان بالإنسان، وأن الحداثة ليست ترفًا غربيًا بل ضرورة للبقاء.

بين فواز ممداني والسودان: العلمانية التي خافتها النخب وسكنها الهامش!
قصة فواز ممداني لا تخصّ الولايات المتحدة وحدها، بل تضيء عتماتٍ في واقعٍ مثل السودان، حيث ما زال الخوف من العلمانية يحكم وعي النخب، ويُكبّل إمكانات التعدد، ويحوّل الدين إلى أداةٍ للسيطرة لا إلى فضاءٍ للأخلاق. لقد رأى الناخبون في نيويورك أن العلمانية ليست نقيض الإيمان، بل ضمانٌ لاحترام الجميع، ولهذا وثقوا في مرشّحٍ مسلمٍ علماني على حساب التيار الأبيض المسيحي أو اليهودي السائد، وعلى حساب من يمثل "المينستريم" صاحب المال والنفوذ، الذي اعتاد احتكار السلطة والرمزية السياسية. لقد اختاروا من الهامش من يجسّد ضمير المدينة لا ميراثها الطبقي او الاثني او الديني!
في المقابل، تواصل النخب السودانية الهروب من العلمانية، تارةً بتصويرها مؤامرةً غربية، وتارةً باعتبارها تهديدًا لهويةٍ دينيةٍ متخيلة، وتارة خوفا من الإسلاميين، وتارة للحفاظ علي الامتيازات بينما هي في جوهرها – كما جسّدها ممداني – إطارٌ للعدالة، وشرطٌ لاحترام التعدد. في السودان، تُقدَّم الشريعة بوصفها الحل النهائي، لكن النتيجة دوماً هي احتكار مجموعةٍ واحدة للحقّ الإلهي والسياسي، واستبعاد بقية المواطنين من معنى الوطن نفسه.
لقد فهم الناخب الأميركي في نيويورك أن العلمانية ليست نفيًا للدين، بل تحريرًا له من سلطة التوظيف. أما النخب السودانية البائسة، فما زالت تتردد في مواجهة الهوس الديني، وتلوذ بالصمت حين يُستباح المختلف، وتخشى أن تُسمّى الأشياء بأسمائها. وحده الهامش السوداني، في جبال النوبة، والأنقسنا، ودارفور، والشرق، هو من طرح بوضوح مبدأ المواطنة المتساوية عبر طرح العلمانية، ليس كشعارٍ فلسفي، بل كشرطٍ للحياة، وكسؤالٍ للكرامة- والتاريخ سيحفظ هذا.
فواز ممداني لم ينتصر على خصومه فحسب، بل على ثقافة الهيمنة التي تساوي بين الإيمان والسلطة. أما السودان، فمستقبله مرهون بأن يعترف، كما اعترفت نيويورك، أن العدالة لا تتحقق بالدين، بل بالعلمانية التي تصون حرية الدين، وأن من يخاف العلمانية إنما يخاف المساواة نفسها.

في الفارق بين الإمكان والجهل:
البيئة التي أنجبت ممداني – نيويورك – هي فضاء مفتوح، فيه المؤسسات تعمل، والمجتمع المدني حيّ، والمدينة تُدار عبر المشاركة والتعدد.
أما في السودان، فإن المدن التي تسيطر عليها النخب تُدار بالوصاية، والثقافة الرسمية تهمّش الإبداع الشعبي، والدولة تُعيد إنتاج التراتب بدلاً من تفكيكه. لذلك تضيع الفرص الموضوعية التي يمكن أن تُحوّل التعدد إلى طاقة تنموية، والاختلاف إلى معرفة.
إن فوز ممداني يُظهر أن المجتمعات التي تحترم التنوع قادرة على إنتاج قيادة عالمية. أما تلك التي تقمع التنوع باسم الدين أو العرق او الجهة، فإنها تُنتج العنف والانقسام لا غير، وهذا مهما حاولت الاحتيال!

العلمانية بوصفها عدالة
ممداني لا يتبني عن علمانية ضد الدين، بل عن علمانية العدالة: دولة تحمي الجميع، ولا تحتكر الأخلاق.
هذه الرؤية تُعيد تعريف مفهوم "المقدس" نفسه: فالمقدس ليس في الشريعة بل في الكرامة الإنسانية، وليس في الطقوس بل في المساواة.
وهنا يمكن للسودان أن يجد طريقه لو أراد، علمانية لا تعادي الإسلام بل تحميه من السلطة، وتعيد له جوهره كقيمة أخلاقية، لا كأداة إقصاء.

اخيرا: درس من قلب نيويورك إلى وعي السودان:
فوز زهران ممداني لم يكن مجرّد انتصار انتخابي في مدينةٍ كونية، بل لحظة رمزية تكثّف معنى التحوّل في مركز السلطة الأخلاقية من النخب المهيمنة إلى صوت الهامش. لقد صعد إلى موقع القيادة ابن المهاجرين والمسلم المختلف، الخارج عن التيار الأبيض السائد، ليقدّم للعالم برهانًا عمليًا على أن القيادة الحقيقية لا تولد من الامتياز، بل من التجربة الإنسانية في الغربة، والتمييز، والكفاح من أجل الكرامة المشتركة.
إن هذا المشهد يضع السودان أمام مرآةٍ قاسية: فبينما اختار الناخب الأميركي مسلمًا علمانيًا من الهامش لأنّه يجسّد احترام الجميع، ما زالت النخب السودانية، يمينها ويسارها ووسطها بمن فيها من يعيش في أمريكا، وبل ومن يعيش في نيويورك نفسها، تتلكأ في مواجهة الهوس الديني، وتتهرّب من تبنّي العلمانية بوصفها ضمانًا للمواطنة المتساوية، وتستبدل شجاعة الموقف بلغة المواربة والحياد الزائف. فبدلاً من أن تفتح الباب لمشروعٍ وطني شامل، تتمسّك بخطاباتٍ بالية تحرس امتيازات المركز وتعيد إنتاج الإقصاء باسم الدين أو الثورة أو "الهوية القومية."
لقد كشف زهران ممداني أن العلمانية ليست ضدّ الإيمان، بل شرطه المدني، وأن العدالة لا تتحقق بمرجعية الطائفة، بل بتكافؤ الجميع أمام القانون والمجتمع. هذه هي الرسالة التي تحتاجها النخب السودانية اليوم: أن الخلاص لا يأتي من استعادة شعارات الماضي، بل من إعادة تخيّل الحاضر بمنطقٍ جديد، يضع الإنسان قبل عقيدة، والمواطنة قبل الانتماء.
وفي زمنٍ تنهار فيه رموز النخبة السودانية تحت ثقل تناقضاتها، يأتي درس نيويورك كإشارة مستقبلية واضحة: إن السودان الجديد لن يصنعه من يتحدث باسم "الأمة" وهو يحرس امتيازاته القديمة، بل من ينهض من الهامش حاملًا مشروع المساواة، والإيمان الحقيقي بالحرية، والتأسيس الأخلاقي لوطنٍ يتسع للجميع — بلا استثناء، وبلا قداسةٍ زائفة تغطي على الظلم.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)