Post: #1
Title: الحرب كقدرٍ أخلاقي: حين يُختطف السلام من رحم الثورة كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 11-03-2025, 11:05 PM
11:05 PM November, 03 2025 سودانيز اون لاين د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK مكتبتى رابط مختصر
٤ نوفمبر ٢٠٢٥
على عتبات الزمن والمصير، عند الحافة التي تفصل بين ضمير يئنّ وعقل يتردّد، يقف السؤال حائراً في مهبّ الريح: أَنقول (لا للحرب) لأنّ الإنسان، في جوهر فطرته، كائنٌ يكره الفناء ويسعى إلى البقاء؟ أم نُسَلِّم بها كقدرٍ قاسٍ يتربّص بالكرامة حين تُغتال، وبالوجود حين يُهان، وبالقرى حين تُستباح، وكأنّها امتحانٌ أخير لمدى ما تبقّى فينا من إنسانيةٍ تُقاوم السقوط؟ تلك الحيرة بين نُبل السلام وقسوة الضرورة ليست مجرّد جدلٍ في المنطق، بل نزيفٌ في الوعي، جرحٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ يكشف هشاشة الإنسان حين تتصدّع المعايير وتغيب العدالة. في أوطانٍ أنهكها الفساد وتهاوت فيها مؤسسات العدل، غدت الحرب مرآةً لضعف إدراكنا، وأصبح السلام طيفاً يلوح في الأفق، يمشي على رماد المدن، يفتّش في الخراب عن ملامح حلمٍ ضائع، وعن إنسان فقد هويته، حائراً بين رماد المدن وأحلام لم تكتمل.
الحرب، في عمقها، انحراف عن مسار الحياة، وانفصال عن توازنها المقدس، وخروجٌ من مدار المعنى إلى فوضى العدم. فهي انطفاءُ لغةِ العقل، وانقطاعُ خيطِ الحوار، واغتيالٌ للزمن الإنساني الذي كان ينبغي أن يُشيَّد بالكلمة لا بالرصاص. غير أنّ رفض الحرب رفضاً مطلقاً، وإن بدا نبيلاً في منطقه، يغفل عن مأساةٍ أعمق. حين تُقلب الموازين، ويُغتصب الوعي، وتُستباح الأوطان، فيغدو الباطل سلطاناً والعدالةُ رجعَ حلمٍ مكسور. في تلك اللحظة، لا تعود الحرب جريمة، بل استغاثةُ وُجودٍ محاصر، ونداءُ أمة تُقاتل لتبقى. ليست رغبةً في القتل، بل صرخةٌ تُقاوم الفناء حين يصبح الصمتُ خيانةً والبقاءُ استسلاماً. فبين الحرب التي تولد من نزوة القوة، وتلك التي تخرج من رحم الضرورة، فرقٌ جوهريٌّ كالفارق بين من يهدم الحياة عبثاً، ومن يدفع عنها سيف العدم دفاعاً عن معناها الأخير.
ذلك ما تكشفه مسارات الثورات حين تتباين بين نقاء البدايات وضياع المقاصد في زحام التحوّلات. فالثورة الحقّة ليست مجرد اندفاعٍ جماهيري، بل لحظةُ انطفاء سلطان العنف حين يتحوّل من أداةٍ للحماية إلى طغيانٍ بلا ضابط، ولحظةُ عودة السلاح إلى غايته الأولى، صون الوطن لا امتلاكه. عندها تُستعاد هيبة الدولة من أيدي تشكيلات القوة المنفلتة التي لا تزدهر إلا في عتمة الاضطراب، ويُعاد بناء المواطنة على عدالةٍ تُساوي بين الناس، لا على موازين الغلبة وتقاسم النفوذ. غير أنّ المأساة تبدأ حين تُنتزع الثورة من ساحة الشعب إلى دهاليز المساومات الضيقة، وحين تُستبدل أهدافها الكبرى بصفقات تُعقد في ظلّ السرية. هناك تتحوّل السلطة من رسالةٍ للتغيير إلى غنيمةٍ تُقتسم قبل أن تُمارس، ويتّسع الفراغ المؤسسي حتى تخرج منه قوى العنف الموازية بوصفها علامةً على انهيار المشروع الوطني، وسقوط الفكرة التي كان يُفترض أن تحمي الضمير الجمعي من السقوط في منطق القوة.
هنا يتجلّى المشهد في أقصى درجات مرارته، تختفي أسئلة العدالة خلف ستار المصالح، وتذوب الوعود العظمى في رياح الصفقات التي تلبس العنف قناعَ الشرعية. يتحول الحلم الوطني إلى ظل باهت من الخيانة والتواطؤ. وفي تلك اللحظة الفاصلة، لا يعدّ حمل السلاح لمن سُلبت حقوقه نزوةَ انتقام، بل دفاعاً عن الوجود ذاته، وليس طلباً للهيمنة، بل استرداداً لكرامةٍ أُهينت، وحين يُعرض الوطن وشعبه للبيع، يتقلّص معنى المدنية إلى شعارٍ أجوف، بينما يتسع أفق الغضب الشعبي الذي يرى في القتال، مهما بلغت شدته، وسيلةً لاستعادة الحقوق المغتصبة.
القول إن الحرب قد تكون ضرورة في بعض الحالات لا يعني تشييئها أو تبرير العنف بلا سقف أخلاقي. فضرورة الحرب تفرض علينا ضوابط صارمة. لا تُنتِج صفقةً مع العنف، بل تفرض شروطاً أخلاقية وسياسية صارمة. تحديد الأهداف بدقة، مراعاة الحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانية للمدنيين، وضمان أن تكون العودة إلى السلم جزءاً من استراتيجية واضحة لإصلاح المؤسسات وبناء الضمانات التي تمنع تكرار الانهيار. إن الاختلاف بين مقاومة وطنية نزيهة ومشروعات عنفٍ استبدادية يمر عبر آليات المساءلة والشفافية، وخريطة طريق سياسية تُعيد الشرعية للمؤسسات.
لا يكتمل تحليل هذا المأزق دون النظر إلى أبعاده النفسية والاجتماعية العميقة. فغياب الثقة بين المواطن والدولة يشكّل الوقود الحقيقي للحرب والاغتراب. حين يشعر الفرد بأن فئةً معينة خانت العهود، وأن الثورة التي شارك فيها سُرِقت، يتحوّل الاحتقان إلى شرخ ينسحب عبر الأجيال. في هذا الفراغ تتراكم رواسب الانتقام، وتتنامى أوساط الانتهازيين الذين يوظفون العنف أداةً لاحتكار السلطة. لذلك، أي معالجة حقيقية تبدأ بإعادة بناء الثقة، إنصاف الضحايا، محاكمات عادلة، وسياسات تُعيد الحقوق المهدورة وتضمن مشاركة حقيقية لكل شرائح المجتمع في صناعة القرار.
ثم هناك سؤال. كيف نعيد الثورة إلى روحها الأولى؟ الإجابة ليست في حنينٍ إلى لحظةٍ تاريخية مفترضة، بل في تحويل المبادئ التي ولدت الثورة، الاعتراف بالكرامة والمطالبة بالعدالة في بوتقة مؤسسات حامية، تصون الناس من الانتهاك وتمنحهم الحماية التي لم تحققها اللحظات التاريخية وحدها. هذا يتطلب إصلاح الجهاز الأمني، فصل الميليشيا عن مؤسسات الدولة، بناء قضاء مستقل، وإنشاء آليات للمصالحة لا تُخفي الحقيقة بل تُثبتها وتُعالجها.
جوهر الأمر يتجاوز الثنائية الساذجة بين (نعم ولا للحرب)، ليمسّ صيرورة الإنسان والأمة، حيث تُختبر المبادئ في واقعية اللحظة ويُسائل كل خيار ضمير الجماعة قبل أن يرسم مصيرها. فالقضية ليست في الحرب ذاتها، بل في الوسائل والغايات، وفي سؤال الشرعية. من يملك حق تقرير مصائر الآخرين، وبأي سندٍ أخلاقي؟ رفضُ الحربِ مبدأً إنسانيٌّ أصيل، لكنه لا يكتمل إلا بإدانةٍ صريحة لكل من استباح الوطن ليُقيم حكماً منزوع الشرعية، كما أن حمل السلاح في الضرورات لا يكون مشروعاً إلا إذا اندرج في انتقالٍ منضبط يعيد بناء الثقة ويضع حدود القوة حتى لا تنقلب إلى فوضى جديدة. ومن هنا تأتي ضرورة نزع أدوات العنف من الخارجين على القانون، ودمج المقاتلين في برامج عدالة انتقالية، وإرساء شروط اقتصادية واجتماعية تمنع تحويل البقاء إلى ذريعة دائمة للعنف. فالحرب ليست مقصداً، بل اختبارا لكرامة الأمة، والسلام ليس فراغاً، بل مشروعاً يومياً لترسيخ العدل والحق.
مفتاح الفهم الحقيقي للمسألة لا يكمن في منطق القوة ولا في التنازع، بل في الوعي بكيف تُستعمل أدوات الصراع ومتى يجب أن تُكفّ. فالقضية ليست في رفض المواجهة أو التعلّق بها، بل في تجاوزها كوسيلةٍ بدائية لحسم الخلاف، واستبدالها بقدرةٍ حضارية على إدارة التنوّع والاختلاف. إن تحويل الألم إلى مشروع بناء يتطلّب مؤسساتٍ قوية تُعيد للدولة معناها، وتعليماً يزرع الثقة في الإنسان وطاقته، واقتصاداً يصون كرامة الحياة. عندها فقط تهبط الشعارات من سماء الخطاب إلى أرض الفعل، ويتحوّل السلام إلى نهجٍ يستمدّ قوته من وعيٍ عميقٍ وإعدادٍ رصينٍ يحمي الحلم الوطني من أن يُختطف مرة أخرى. [email protected]
|
|