سفر الخلود- في رثاء عمار محمد آدم

سفر الخلود- في رثاء عمار محمد آدم


11-01-2025, 09:00 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762030826&rn=0


Post: #1
Title: سفر الخلود- في رثاء عمار محمد آدم
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 11-01-2025, 09:00 PM

10:00 PM November, 01 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





لم يكن عمار محمد آدم صحفياً فحسب، بل كان كائناً من نورٍ يتجوّل في دهاليز العتمة، يبحث عن بصيص صدقٍ في زمن امّحت فيه الملامح وتبدّلت القيم. كان صوته كنداءٍ يخرج من صدر الصحراء، يوقظ النيام ويوقظ الحجارة.
قلمه لم يكن أداة كتابة، بل نبضاً من قلبٍ مشتعِل، يسكب حرارته على الورق فيضيء الفكرة قبل أن يكتبها.
كان عمار شجرة معرفةٍ نبتت في أرضٍ قاحلة، تسقيها رياح الحيرة بدمه، وتسهر حولها أرواح التائهين. كتب كمن يترجم صرخة الوجود، وناقش كمن يطارد الحقيقة في غابات الأسئلة. لم يعرف المهادنة إلا مع ضميره، ولم ينحنِ إلا لفكرٍ ناضجٍ أو حجةٍ أبلج.
يقولون كان مجنوناً، وما علموا أن الجنون قرين العظمة. كان يكتب كمن يسكب الذهب المذاب على الورق، يجمّل الكلمة ويجرّح الفكرة، يبعث الحياة في المألوف حتى يغدو جديداً، ويهزّ الراكد فينا كما تهزّ العاصفة أعمدة الرمل. في زمنٍ كسا الغبارُ ملامح الفكر
كان عمار عاصفةً لا تهدأ، ترفع الغبار لتكشف ما تحته.
قلم كالسيف.. وقلب كالقطرة
لم يحمل سيفه ليجرح، بل ليبتر الزيف ويطهّر الكلمة. كان يقسو على الفكرة لا على صاحبها، ويقاتل من أجل الحقيقة لا ضدّ أحد. علّمنا أن الخلاف لا يعني العداء، وأن الجدال يمكن أن يكون صلاةً للعقل. كان في صوته وقار الحكيم، وفي عبارته توق الشاعر
وفي روحه نزق الثائر الذي يؤمن أن النصر الحقيقي هو انتصار الإنسان على خوفه.
وكان أستاذ المراجعة الكبرى، لا يخشى أن يعتذر، لأن الشجاعة في نظره ليست أن تصمد فحسب، بل أن تعود عن الخطأ وأنت واقف. حين كتب اعتذاره للعالم، بدا كما لو أنه يغسل روحه بماء الوعي. انتصر على نفسه، فاستحق أن يُكتب اسمه في سفر الخالدين.
تراث لا يموت
ترك عمار وراءه كلماتٍ تشبه الأناشيد الأولى، ومقالاتٍ تشبه اعترافات الأنبياء في ليل التأمل. كان يقول في مراجعاته:
"كنا نظن أن الحقيقة لنا وحدنا، حتى أوجعنا اتساعها، فصرنا نتمسّك ببعضها ونبكي ما فاتنا منها."
وفي حديثه عن الحوار كتب يوماً:
"نختلف حتى تدمى العيون، ثم نصافح حتى تدمى القلوب، لأننا ندرك أن الخلاف في الرأي لا يفسد للصدق قضية."
أما في رحلته الأخيرة مع ذاته، فقد خطّ:
"كنت أحمل حجراً لأرمي به الآخر، فاكتشفت أن الحجر يرتد إلى صدري. فاستبدلته بقلم، وصرتُ أبني به وطناً لا يهدمه الغضب."
عمار الذي لم يرحل
رحل الجسد، لكن الصوت باقٍ في ذاكرة الوطن، والضوء باقٍ في وجدان القرّاء. سيظل عمار محمد آدم كالسحابة التي تمرّ بعد العطش، تترك خلفها خضرةً في القلوب.
لقد مضى، لكنه خلّف لنا ما لا يفنى: الإيمان بأن الكلمة أمانة، وأن الفكر لا يموت إذا كُتب بصدق.
اللهم، إن عبدك عماراً قد صدق الكلمة وأخلص النيّة، فاغفر له، وارحمه، وأكرم نزله، واجعل قلمه شفيعاً له يوم يلتبس الحرف على القرّاء.
عزاؤنا لأسرته، وللصحافة السودانية التي فقدت واحداً من أنبل فرسانها، وللأمة التي ودّعت ضميراً من ضمائرها الحيّة.
إنا لله وإنا إليه راجعون.