Post: #1
Title: 4-4من الاستقلال إلى الرباعية – كيف أوصلت النخب السودان إلى لحظة الوصاية الدولية كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 11-01-2025, 02:54 PM
03:54 PM November, 01 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
4-4من الاستقلال إلى الرباعية – كيف أوصلت النخب السودان إلى لحظة الوصاية الدولية
31/10/2025 – خالد كودي، بوسطن الجزء الرابع والأخير
المأساة المستمرة: من الاستقلال إلى الانهيار: ١/ كلّ هذا الخراب، ما الذي لم تفهمه النخب السودانية بعد؟!
إنّ ما يعيشه السودان اليوم لم يكن قدرًا غامضًا ولا مؤامرة خارجية، او غزوا اجنبيا، بل نتيجةٌ حتمية لسبعين عامًا من الجهل السياسي، والتواطؤ الأخلاقي، والأنانية الطبقية، والفشل المتكرر في بناء دولةٍ عادلة. فمنذ لحظة الاستقلال عام 1956، احتكرت أقلية مركزية السلطة والثروة والرمز، ونصّبت نفسها وصيًّا طبيعيًا على البلاد، دون أن تمتلك يومًا القدرة علي بناء وطن، لم تمتلك الخيال السياسي أو الشجاعة الأخلاقية لتفهم أنّ الوطن لا يُبنى على الامتياز، بل على العدالة والمساواة. لم يتصالح السودان يومًا مع ذاته، لأن نُخبه ظلت ترى في التنوع تهديدًا، وفي العدالة خطرًا على الامتياز، وفي المساواة خصمًا على المكانة. وهكذا ظلّت تعيد إنتاج المنظومة ذاتها: دولة تُدار بالخوف، وجيش يحرس الامتياز، ومواطنة تُمنح بالولاء لا بالحق.
الحرب التي تلتهم دارفور وكردفان اليوم ليست حدثًا طارئًا ولا انفجارًا مفاجئًا، بل لحظة الحقيقة المؤجّلة؛ نتيجة عقودٍ من القمع والتهميش، وانهيارٍ بطيءٍ لمشروع الدولة الوطنية منذ ولادتها. لم تنفجر الحرب من فراغ، بل من رحم دولةٍ فشلت في أبسط وظائفها: في بناء وطنٍ ديمقراطي يضمن العدالة ويصون الكرامة ويوفر سبل العيش الكريم والتعليم والصحة والتنمية. وما يجري اليوم في الفاشر وسائر مدن السودان من قتلٍ ونزوحٍ ليس استثناءً، بل امتدادٌ مأساويٌ لتاريخٍ طويلٍ من إنكار المساواة عاشته دارفور منذ الألفية، وجبال النوبة والنيل الأزرق منذ التسعينات، والجنوب قبل الانفصال. النتيجة واحدة: دولة تعيد إنتاج فشلها، ونخبة تتنصّل من مسؤوليتها، وشعب يُعاقَب لأنه تجرّأ على الحلم بالعدالة. الفرق الوحيد هذه المرة أن الكاميرا وصلت إلى مواقع الحدث، فصارت المأساة تُبثّ على الهواء مباشرة، لكنّ الخراب هو نفسه — يتجدّد كلّما عجزت النخبة عن مواجهة ذاتها وعن الاعتراف بتاريخها. اللحظة الراهنة ليست سوى مرآةٍ كاشفةٍ لهذا العجز البنيوي؛ لحظة تُظهر كم كان صمت النخب جريمة، وكم كان تواطؤها أكبر من كلّ ما يُقال اليوم عن “الانتهاكات” و"المدنيين الأبرياء". فالكثير من هؤلاء الذين يلعنون الحرب اليوم شاركوا بالأمس في صناعتها: بعضهم صاغ خطابها، وبعضهم روّج لوهم "الوحدة الوطنية" القسرية، وبعضهم صمت باسم "الاستقرار". واليوم، حين احترقت الأرض تحت أقدامهم، يذرفون الدموع على ضحاياٍ صنعوا بأيديهم شروط مأساتهم. أيُّ سخريةٍ أبلغ من أن تشرب النخبة ومن يتواطآ معها الكأس نفسها التي سقَت بها الآخرين؟ لقد بنت النخب السودانية تاريخها السياسي على العنف كوسيلةٍ للحكم والامتياز، لا كعرضٍ طارئ. فمنذ ستينيات القرن الماضي، حين ورثت الدولة الوطنية أدوات المستعمِر، لم تسعَ إلى بناء شرعيةٍ قائمةٍ على المساواة في المواطنة، بل على الإخضاع والتمييز. فأنشأت الميليشيات لحماية سلطتها المركزية، لا لحماية الوطن. وهكذا تحوّل العنف إلى بنيةٍ حاكمة: من "قوات الدفاع الشعبي" في عهد الإسلاميين، إلى "الشرطة الشعبية"، ثم إلى "قوات الدعم السريع" — جميعها تمثّل صيرورةً واحدة لسلطةٍ تُقاتل شعبها بدلاً من أن تخدمه، وتحتمي بالسلاح ضدّ المواطن بدلاً من أن تحميه. لكن المفارقة الكبرى أنّ هذا السلاح الذي صُنِع لحماية الامتيازات انقلب على صانعيه، تمامًا كما حدث في تجارب التاريخ السياسي الحديث حين تحوّلت أدوات القمع إلى أدوات تمرّد: كما في إيران حين انقلبت "قوات البازار" على النظام الشاهنشاهي الذي استثمر فيها، وكما في كوبا حين تمرّد ضباط "جيش باتيستا" على نخبه، وكما في فرنسا حين ثار "الحرس الوطني" على الملكية التي موّلته. في السودان، ولدت "قوات الدعم السريع" من رحم الدولة نفسها، لا كقوة مقاومة، بل كأداةٍ في يد النخبة لحراسة نفوذها وقمع الأطراف.
غير أنّ التاريخ — كعادته — كشف تناقضه الداخلي: فقد تحوّل الجسد المسلّح الذي خُلق لحماية الامتيازات إلى قوّةٍ تواجه صانعيه، بعد أن أدرك أن العدو الحقيقي لم يكن في الأرياف والهامش، بل في بنية الدولة التي كرّست الظلم وأعادت إنتاجه. لكنّ هذا التحوّل لا يكتمل إلا حين يتحوّل السلاح إلى وعي؛ والوعي لا يُولَد في لحظة، بل يتكوّن عبر عملية تاريخية طويلة تتطلب الإيمان بالمشروع، وبالزمن كحليفٍ لبناء إنسانٍ جديد دمّره وطنه القديم. حينها فقط، يمكن أن يتغيّر التاريخ حقًا فـ"الدعم السريع" لم يُخلق ليكون مشروع تحرّر، بل وُلد ليحمي النظام القديم من احتمالاته، وليمنع أيّ انبثاق للعدالة من الهامش تحديدا. ومع ذلك، فإنّ التحوّل في موضوع العنف ذاته — من عنفٍ في خدمة السلطة إلى عنفٍ في مواجهتها — هو ما يميّز اللحظات التاريخية الفاصلة في مسار الشعوب. يقول ميشيل فوكو: "حين يفلت العنف من قبضة الدولة، لا يعود مجرّد تمرّد، بل يصبح كشفًا عن أصل الدولة ذاتها" في هذه اللحظة السودانية الحرجة، أصبح العنف مرآةً سياسية تعكس جوهر الأزمة: فالمليشيا التي أنشئت لحماية امتيازات النخب ومراكز القوة باتت تُعيد تعريف المركز نفسه كرمزٍ للهيمنة، وكأنّ التاريخ يدور ليقول إنّ السلاح الذي حمى الامتياز هو ذاته الذي يُعلن سقوطه. لكن الأسئلة الملحّة لا مفرّ من مواجهتها:
هل ارتكب "الدعم السريع"، وهو الابن الشرعي للمؤسسة العسكرية السودانية، تجاوزاتٍ فادحة في حق الإنسان السوداني وفي الفاشر؟ نعم.
هل يجب أن تُحاسب العناصر المتورطة دون هوادة؟ نعم.
وهل يحتاج "الدعم السريع" إلى إعادة تأهيلٍ وتدريبٍ جذري يفكّ ارتباطه بإرث المؤسسة التي أنشأته، ليصير جيشًا منضبطًا يخضع للدستور والقانون؟ نعم. وإن لم يفعل — يسقط. فالتحوّل لا يُقاس بالشعارات والوعود، بل بقدرة المؤسسة على نقد ذاتها وتطهيرها من إرثها الدموي. والعدالة ليست انتقامًا، بل تأسيسٌ جديدٌ لعقدٍ أخلاقي بين السلاح والإنسان، بين القوة والضمير. هذا التحوّل ليس تبرئةً للعنف، بل فهمٌ جذريٌّ لبنيته: فـ"الدعم السريع"، مثل "الباسيج" في الثورة الإيرانية أو "الكوماندوز" في حركات التحرّر اللاتينية، يُجسّد الوجه الاجتماعي للعنف حين يتحرّر من المركز ويتحوّل إلى حاملٍ لمظلوميةٍ تراكمت قرونًا. ومهما كانت تناقضاته، فإنه يُعبّر عن انهيار المعادلة القديمة التي جعلت من الهامش خزانًا بشريًا للموت في سبيل المركز. وللمرة الأولى منذ الاستقلال، يتحوّل مركز القرار العسكري نفسه إلى موضوعٍ للصراع لا إلى فاعلٍ فوقه. لقد أرادت النخب أن تصنع سلاحًا يحمي سلطتها، فانتهى السلاح إلى أن يكشف هشاشتها؛ حلمت بدولةٍ تُخضع الجميع بالقوة، فانتهت إلى أن ترى نفسها عارية من أي شرعيةٍ أخلاقية. إنّ ما نعيشه اليوم ليس انتقامًا، بل عودة التاريخ من الهامش إلى المتن؛ تحوّلًا في جوهر السلطة من ملكيةٍ حصرية إلى مسؤوليةٍ وطنية تُحتّم إعادة تأسيس الدولة. وحين تتقاتل المدن ذاتها وتتحوّل أدوات السيطرة إلى أدوات مساءلة، يبلغ السودان لحظة الحقيقة القصوى:
أن الدولة التي لم تُبنَ على العدالة، ستُهدم على أيدي من عانوا ظلمها — ليُعاد بناؤها على أسسٍ من الوعي والإنسانية.
: ٢/ من احتكار الدولة إلى وصاية الخارج لم يكن من الممكن لدولةٍ تأسّست على إنكار العدالة أن تستمر بلا انهيار.
لقد فشلت النخب في بناء دولةٍ جامعة لأنها لم تفهم معنى “الجامعة” أصلًا. احتكرت الدين فحوّلته إلى سلاح، واحتكرت الوطنية فجعلتها أداة إقصاء، واحتكرت الجيش فحوّلته إلى آلة قمع. واليوم، وقد انهارت مؤسساتهم واحدةً تلو الأخرى، تأتي "الرباعية الدولية" – لا كمخلّصٍ خارجي، بل كمرآةٍ لعارٍ داخلي – لتذكّرهم بأنّ من يعجز عن إدارة بيته، سيُدار من الخارج رغما عنه. الرباعية ليست مؤامرة على السيادة، بل تجسيدٌ لفشلها. إنها الدليل القاطع على أن النخب السودانية لم تتعلم من التاريخ، وأنها بهيلها وهيلمانها وانتفاخاتها البالونية- تحتاج إلى وصيّ كي تلتزم بأبسط مقتضيات الإنسانية. يقول نعوم تشومسكي: "أنت مسؤول عن النتائج المتوقعة لأفعالك."
والنتيجة اليوم واضحة: وطنٌ ممزّق، وسيادةٌ منتهكة، وشعبٌ يدفع ثمن غباء نُخبه، وعنطزتهم الفارغة. اليوم الفاشر، غدا الأبيض وهكذا...
: ٣/ الصَّلَف الوطني والعنصرية المقنّعة ما قيمة "الوطنية" حين يتحوّل الوطن إلى مقبرة جماعية؟ وما معنى "السيادة" حين تُغتصب النساء وتُحرق القرى باسم الله والوطن؟ لقد تحوّلت "الوطنية" في خطاب النخب السودانية إلى قناعٍ يخفي وراءه الأنانية والعنصرية المؤسسية، حتى غدت تُستخدم لا للدفاع عن الشعب، بل لحماية سلالة السلطة التي تحتكر تعريف الوطنية وتمنح صكوك الانتماء لمن تشاء وتنزعها عمّن تشاء! والحق يقال، لقد كان تحرير الفاشر لحظة فارقة في التاريخ السوداني الحديث — عظيم الثمن، باهظ التضحيات، لكنه كشف هشاشة الأسطورة التي بنتها النخب حول "الجيش القومي" وما يصنعه من مليشيات وحول ذاتها كحارسة للوطن. فعوضًا عن أن تنظر إلى الحدث بوصفه منعطفًا في مسار العدالة التاريخية، قفزت النخب فوق اللحظة، مستعيدةً أدواتها القديمة في تدوير الكراهية وتبرير امتيازاتها عبر لغة عنصرية مؤسسية، تحاول إحياء فرضيات المجرم بالفطرة على طريقة عالم الأنثروبولوجيا الإيطالي تشارلز لومبروزو. هكذا جرى تصوير مقاتلي "الدعم السريع" — لا كفاعلين في مأساة وطنية معقدة بما لهم وماعليهم، بل كـ"مجرمين بالجينات" و أجانب الميلاد، وكأن العنف ليس نتاجًا لبنية الدولة نفسها، بل سلوكًا غريزيًا مرتبطًا بالعرق أو الجغرافيا! لكن هذه النظرية العنصرية تنهار أمام أبسط تفكير تاريخي وأخلاقي. فهؤلاء الذين يصنّفون "الدعم السريع" كمجرمين بالفطرة، ووافدين يتناسون أنّ هذه القوة نفسها كانت، إلى وقتٍ قريب، سيفهم المسلول في وجه الهامش، حين كانت تحرس امتيازاتهم وتحمي مدنهم. لم تكن يومها ميليشيا خارجة عن القانون، بل "قوات الدعم السريع الوطنية" التي يُشاد بها في إعلام الدولة ويُكرَّم قادتها في قصور الخرطوم. بل إنّ الانتهاكات نفسها — وأفدح منها — ارتكبها الجيش السوداني في دارفور وجبال النوبة والخرطوم، من حرق القرى إلى الإعدامات الميدانية، دون أن تُوصَم مؤسسته بأنه "مجرم بالفطرة"! فالعنف كان يُغفر له ما دام في خدمة "المركز"، ويُجرَّم فقط حين يفلت من قبضته! إنّ هذا التحوّل في الحكم الأخلاقي والسياسي ليس بريئًا؛ إنه تحوّلٌ عنصريٌّ في جوهره. فعندما كانت البنادق موجَّهة ضد الفقراء والمهمّشين، كان العنف يُسمّى "واجبًا وطنيًا"، وحين ارتدت البنادق نحو النظام الذي ربّاها، تحوّل الفاعلون فجأة إلى "همجٍ" و"لصوصٍ ومجرمين بالرضاعة". وكأن الجريمة لم تكن جريمة إلا حين مست امتياز الطبقة التي بنت الدولة على أساس التراتب العرقي والثقافي! إنّ ما يحدث اليوم ليس صراعًا بين "الجيش الوطني" و"مليشيا متمردة"، بل انكشافٌ بنيويٌّ للدولة السودانية نفسها، التي جعلت من العنف إحدى آليات إنتاجها. فـ"الدعم السريع" ليس انحرافًا عن الجيش، بل نتاجه الطبيعيّ، ومرآته التي عكست صورته بلا مساحيق. لذلك، فإنّ تبرئة الجيش وتجريم "الدعم السريع" بوصفه الآخر المتوحش ليست سوى محاولة لتبرئة الذات المركزية من جرائمها التاريخية. لقد قال جان جاك روسو ذات مرة مايعني: "إرادة الجميع تفسد حين تتحوّل إلى ملكية خاصة" وهذا ما حدث في السودان تمامًا: تحولت إرادة الأمة إلى ملكيةٍ خاصةٍ للنخب المتمترسة إثنيًا وجهويًا ودينيًا، فصارت الوطنية نفسها شكلًا من أشكال الفساد الأخلاقي، تُستخدم لتبرير الإقصاء والعنصرية، لا لبناء وطنٍ يتسع للجميع. فحين تصير الوطنية غطاءً للعنف، والسيادة تبريرًا للهيمنة، فإنّ أخطر ما يواجهه السودان ليس السلاح، بل الكذب الأخلاقي للنخب. لقد أفرزت الحرب وعياً جديدًا يعرّي هذا الكذب، ويكشف أن ما سُمّي "جيشًا قوميًا" لم يكن سوى جهاز لحماية الامتياز، وأن ما سُمّي "مليشيا متمردة" ليس سوى نتاج هذا الجهاز حين انكسر طوعه! إنّ السودان لا يُستعاد بالإنكار، بل بالاعتراف: بالجرائم جميعها، وبالعدالة للجميع — لا بالانتقائية، ولا بالاثنية، ولا بالذاكرة المختارة. المساواة كتحرّر لا كتهديد أخفقت النخب السودانية في فهم أن المساواة لا تنتقص من أحد، بل ترفع الجميع. كما كتب جيمس بالدوين: "ليس هناك تفوّق، بل خوف من المساواة." وهذا الخوف هو ما حبس النخبة في سجنٍ نفسيٍّ ودينيٍّ جعلها تخشى أن ترى الآخرين أندادًا، لأن ذلك يعرّي خواء امتيازها التاريخي. لكنّ التاريخ لا يرحم الخائفين من الضوء. فالأمم التي واجهت تنوّعها واحتفت به هي التي نهضت: - في جنوب إفريقيا، سقط نظام الفصل العنصري، ولم تنتقم الأغلبية، بل واجهت الماضي بالمصالحة. قال مانديلا: "الحرية لا معنى لها إن لم تشمل العدو الذي كنا نحاربه" - في رواندا، بنى بول كاغامي دولة عدالة بلا ثأر، معلنًا: "لن نبني أمة ونحن ننتقم" - في الهند، رأى غاندي أن اختلاف المعتقدات دليل على سعة الخلق الإلهي، فترسّخت ديمقراطية تعددية رغم الفقر - وفي الفكر الغربي، من الثورة الفرنسية إلى هانا آرنت، وُلدت فكرة المواطنة بوصفها "الحق في أن يكون لك حقوق".” أما السودان، فظنّ أن الإقصاء يحميه، فإذا به يُهلكه. فكلّ قريةٍ أُحرقت في دارفور، وكلّ طائرةٍ قصفت جبال النوبة، كانت تقتل جزءًا من الوطن ذاته، بينما النخب بين صمتٍ وجفاءٍ واحتفالٍ بدم الآخرين كما لو كانت أعراسًا للسلطة لا مآتم للوطن..
٥/ عقدة الأجنبي… وعبودية الذات: من أخطر أمراض النخب السودانية "عقدة الأجنبي" – ذلك الهوس بكل ما هو خارجي، إما بتمجيده المَرَضي أو كراهيته الهستيرية. وكلاهما وجهان لعبوديةٍ فكرية واحدة.
لقد فشل السودان في أن يكون جسراً بين إفريقيا والعالم العربي، بين الإسلام والمسيحية، وكريم المعتقدات لأن نُخبه لم تؤمن بذاتها إلا بقدر ما ترى الآخر تهديدًا أو مرآة. وهكذا، حين فشلت في إدارة الداخل، استدعت الخارج – طوعًا أو كرهًا – ليُعيدها إلى رشدها.
الرباعية اليوم تمارس سياسة العصا والجزرة، لا حبًا في السودان، بل لأن نخبه أثبتت أنها عاجزة عن فهم ما هو موضوعي وإنساني ومعاصر في آنٍ واحد. لقد صار "الأجنبي" أكثر إنسانيةً من الوطني، لأنه على الأقل يعترف بقيمة الإنسان كإنسان!
٦/ من الدولة إلى الوعي: الرباعية ليست حلاً امثلا، بل عرضٌ للمرض. إنها النتيجة المنطقية لدولةٍ فشلت في تعريف نفسها إلا بالحرب.
لكنّ هذه اللحظة – مهما بدت مأساوية – قد تكون الفرصة الأخيرة لإعادة التأسيس ان اردنا وطنا. فكما قال هيغل: "الوعي لا يُولد مكتملًا، بل يتكوّن عبر صراعه مع واقعه."
والسودان اليوم يعاد تشكيله بقدر ما يعاد تشكيل وعيه. إنها "ليست نهاية وطن، بل بداية وعي"! وما قاله فرانز فانون قبل نصف قرن يصير اليوم نبضًا سودانيًا خالصًا: "كل جيلٍ يجب أن يكتشف مهمته، إمّا أن ينجزها أو يخونها."
ومهمة هذا الجيل أن ينقذ السودان من نفسه، لا من الآخرين؛ أن يبني وطنًا للمواطنة لا للوصاية، وللإنسان لا للمقدس المصطنع.
٧/ أخيرًا – لا وطن بلا مساواة، ولا سيادة بلا عدالة: منذ عام 1956 وحتى 2025، كانت مسيرة السودان من حلم الدولة إلى وصاية "الرباعية" رحلة فشل النخب، لا فشل الشعب.
الشعب الذي انتفض في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وديسمبر 2018 ، وصمد في الاراضي المحررة ما زال حيًّا في ذاكرة الأرض وفي وجدان المدن والقرى، أمّا نُخبه فقد ظلّت أسيرة لتاريخٍ لم تجرؤ على نقده، تتوارث أوهام البطولة والنخوة والكرم والسلم كما يتوارث الإقطاعيون أراضيهم. اوكما قال جان بول سارتر: !"لقد أرادوا أن يكونوا أسياد التاريخ، فانتهوا عبيدًا له"
لم يكن التاريخ يومًا عدوّ السودان، بل النخب التي خانت احتمالاته. فكلّ مرةٍ كان الشعب يفتح فيها باب الوعي، كانت النخب تُعيده إلى القفص، تخاف من النور أكثر من خوفها من الهزيمة. واليوم، وقد بلغ الخراب أقصاه، وبلغت الحرب ذروتها في الفاشر، يعود السؤال المؤجَّل:
ما معنى الدولة إن لم تكن بيتًا للعدالة؟ وما معنى السيادة إن لم تكن مساواة بين أبنائها؟ لقد كشفت أحداث الفاشر عن عُري الدولة وعن زيف خطاب النخب التي اصطفّت خلف الجيش، وخلف الحركة الإسلامية، وارتبك تجاه “الرباعية”، تتاجر بالسيادة وهي تحلم بان تسلّم البلاد لوصاية تاريخها العنصري. ومع ذلك، فإنّ الفظائع التي ارتُكبت في الفاشر وقبلها العشرات من المدن بما فيها من قتلٍ وانتهاكٍ، وقصف، وحرقٍ وتدمير، يجب ألا تُنسينا الحقيقة الأكبر: أنّ هذه التجاوزات نفسها ينبغي أن تكون الدافع لبناء السودان الجديد، لا مبررًا لإعادة إنتاج الدولة القديمة. فكلّ دمٍ سُفك في الفاشر هو إدانةٌ للنظام القديم، لا لتطلعات التحرر. وكلّ جريمةٍ تُرتكب اليوم هي نداءٌ لإعادة تأسيس دولةٍ تقوم على المساواة والمساءلة. العدالة هنا ليست شعارًا، بل واجبًا تاريخيًا — عدالةٌ تشمل الجميع دون انتقائية، بما في ذلك محاسبة كل من ارتكب جرائم حرب وانتهاكات، أياً كانت الجهة التي ينتمي إليها- وبما في ذلك تجاوزات الفاشر. إنّ خلاص السودان لن يتحقق بالوعود ولا بالمناورات ولا بالاحتيال، بل بالاعتراف المؤسِّس بأنّ المواطنة لا تُجزَّأ، وأنّ العدالة لا تُؤجَّل، وأنّ الدولة التي تفرّق بين دم وآخر لا تستحق الحياة.
ذلك هو الاعتراف البسيط والعميق في آنٍ واحد: - لا وطن بلا مواطنة متساوية، - ولا سيادة بلا مساواة، - ولا إنسانية بلا علمانية هذا الاعتراف شرط البدء في تأسيس سودانٍ جديدٍ للناس، لا للإيديولوجيا؛ سودانٍ للعدالة لا للغلبة، وللمعنى لا للسلطة؛ سودانٍ يليق بتضحيات من ماتوا ليولد الوعي من رمادهم. إنّ هذه اللحظة المفصلية ليست نهاية التاريخ، بل بدايته الممكنة. إنها فرصة نادرة للبدء من جديد: - ببناء دولة علمانية عادلة تفصل بين الإيمان والسلطة، - وبإنشاء جيش وطني جديد قائمٍ على المواطنة لا الولاء، - وبإنتاج نخب جديدة تستمد شرعيتها من الشعب لا من ذاكرة الامتيازات الطائفية أو العسكرية إنّ السودان، الذي أنهكته الحروب وابتلعته خطايا المركز، لن يجد خلاصه في "العودة إلى الماضي"، بل في القطع معه. فالدولة التي لا تُبنى على العدالة ستُهدم — لا محالة — على أيدي من ذاقوا ظلمها! ولعلّ الدرس الأخير في هذه الرحلة الطويلة أن الوعي ليس حدثًا يقع، بل عملية تتشكّل، وأن السودان يُعاد تشكيله الآن، لا بالخرائط ولا بالمؤتمرات المكرورة، بل ببطءٍ وعمقٍ، في وعي من أدركوا أن المساواة هي اسم الوطن الحقيقي فمن رماد الفاشر، ومن عتمة الخراب الممتدّ في البلاد، يمكن أن يولد السودان الذي يستحق اسمه —
سودان العدالة، وسودان الإنسان.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|