الفاشر، الانتصارات، التجاوزات، التحالفات، والواجب المدرسي لقوات الدعم السريع الجزء الأول:

الفاشر، الانتصارات، التجاوزات، التحالفات، والواجب المدرسي لقوات الدعم السريع الجزء الأول:


10-29-2025, 01:32 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1761697964&rn=0


Post: #1
Title: الفاشر، الانتصارات، التجاوزات، التحالفات، والواجب المدرسي لقوات الدعم السريع الجزء الأول:
Author: خالد كودي
Date: 10-29-2025, 01:32 AM

01:32 AM October, 28 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر





الفاشر، الانتصارات، التجاوزات، التحالفات، والواجب المدرسي لقوات الدعم السريع

الجزء الأول:

28/10/2025 خالد كودي، بوسطن

١/ الفاشر… انتصارٌ يفتح التاريخ من جديد:
تحرير مدينة الفاشر من قبضة نظام بورتسودان ليس حدثًا عسكريًا عابرًا، بل منعطفٌ استراتيجيّ يعيد رسم الخريطة الجيوسياسية والأخلاقية للسودان المعاصر. إنّه تحوّلٌ تاريخي خرج من رحم المأساة السودانية، حيث يُعاد تشكيل السودان من قِبَل الشعوب المهمَّشة التي لم تتوقف عن مقاومة هيمنة المركز لعقود طويلة — مرّةً بالعمل معه، ومرّاتٍ بالتواطؤ أو الصمت عليه، وأخيرًا... اليوم، بتمزيق أقنعته ومواجهته بالوعي والسلاح معًا...وهزيمته!
لقد خاضت قوات الدعم السريع معارك معقدة، أظهرت فيها شجاعة ميدانية وبسالة استثنائية، وفرضت معادلة جديدة كسرت صلف جيش المركز الذي ظلّ لعقود يحرس دولة النخب والامتياز الطبقي والإثني والديني والجهوي. لكنّ الانتصار في الميدان لا يكتمل إلا بانتصارٍ في الوعي، والوعي ليس حدثًا لحظيًا بل عملية تاريخية مركبة تتكوّن عبر التجربة، والمراجعة، والنقد الذاتي والنقد. ومن دون هذا الوعي، يتحول النصر العسكري إلى لحظة عابرة في مسارٍ دائريّ يعيد إنتاج ما سقط.
إنّ السودان اليوم يُعاد تشكيله بقدر ما يُعاد تشكيل وعيه، والفرز فيه؛ فالثورة ليست فقط إسقاطًا لنظام، او هزيمة لجيش او مليشيا بل تحوّلٌ في إدراك الإنسان لذاته ولدوره في التاريخ. لذلك فإنّ المعيار الحقيقي للانتصار لا يُقاس بعدد المدن المحرَّرة، بل بمدى قدرة القوى الثورية على ترجمة هذا الوعي إلى التزامٍ أخلاقي، التزام يجعل من حماية المدنيين واحترام كرامة الإنسان جوهر مشروع التحرر الوطني لا ملحقًا به.
إنّ الفاشر اليوم في معناها الأعمق ليست مجرّد مدينةٍ محرَّرة، بل رمزٌ لتحرر المعنى نفسه، تحررٌ من دولةٍ جعلت القتل قاعدةً للحكم، ومن مركزٍ بنى مجده على الإقصاء وإنكار الآخر. ومن هنا، فإنّ انتصار الفاشر ليس نهاية الطريق بل بدايته: بدايةُ تاريخٍ جديدٍ امامه كل الفرص ليُكتب بالوعي والمسؤولية، وبالالتزام الإنساني الذي يجعل من الحرية فعلًا أخلاقيًا قبل أن تكون مكسبًا عسكريا او سياسيًا.

٢/ البطولة الأخلاقية والانضباط الثوري:
لقد أظهرت المعارك في الفاشر الكثير من النماذج المشرفة، وشواهد أكدت أن وحداتٍ متعددة من قوات الدعم السريع عملت على حماية المدنيين وتأمين خروجهم الآمن من مناطق الاشتباك، وقدمت لهم الرعاية والمساعدة الغذائية والطبية، بل تجاوزت ذلك إلى تأمين الأسرى والجرحى ومعاملتهم معاملةً كريمة وفقًا للقانون الدولي الإنساني، وخصوصًا اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 التي تنص في مادتها (13) على أن:
"يجب معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية في جميع الأوقات، ويُحظر أي عملٍ من أعمال القتل أو التعذيب أو الإهانة"
وهؤلاء المقاتلون المنضبطون يستحقون كل الإشادة، فهم الذين جسّدوا الوجه الحقيقي لتحالف "تأسيس"، وأثبتوا أن الثورة ليست فوضى، بل التزام أخلاقي بقيم الحرية والعدالة والمساواة.

٣/ الفيديوهات والتجاوزات: إدانة واجبة وموقف مبدئي:
رغم ما سبق من التزامٍ وانضباط ايجابي، انتشرت في الأسافير عددٌ كبير من الفيديوهات المروّعة التي تُظهر – بشكل مؤلم عناصر من قوات الدعم السريع وهي تقوم بتصفياتٍ لأشخاص لا يحملون سلاحًا، وقد يكون بعضهم مدنيين أو عسكريين، لكنّ المشترك بينهم أنهم كانوا في وضعٍ لا يسمح بالمقاومة أو القتال.
إنّ هذه الأفعال تتناقض تمامًا مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، وخصوصًا المادة (3) المشتركة من اتفاقيات جنيف، التي تحظر "الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وخاصة القتل بجميع أنواعه، للمدنيين أو الأشخاص الذين ألقوا أسلحتهم". كما تخالف ميثاق تحالف "تأسيس" ودستوره الانتقالي، اللذين يجعلان من احترام كرامة الإنسان أساسًا لا يمكن تجاوزه أو تبريره تحت أي ذريعة.
هذه الممارسات أيضًا تناقض جوهر الشهامة السودانية التي عُرفت منذ القدم بعدم قتل الأعزل، مدنيًا كان أم عسكريًا، وباحترام الخصم حين يسقط السلاح. وهذا باستثناء سلوك جيش النخب ومليشيات الاخوان المسلمين
لذلك، فإن إدانة هذه الأفعال ليست خيارًا سياسيًا، بل واجب أخلاقي وثوري.

٤/ المطلوب من قيادة الدعم السريع وتحالف "تأسيس":
إنّ المسؤولية الآن تقع مباشرةً على قيادة الدعم السريع اولا ثم تحالف "تأسيس" لاتخاذ إجراءاتٍ عاجلة تحفظ قيم الثورة وتمنع تكرار هذه التجاوزات. وتشمل هذه الإجراءات ما يلي:
١/ فتح بلاغات وتحقيقات عاجلة ومستقلة للتحقق من صحة المقاطع المصوّرة وتحديد المسؤوليات بدقة وشفافية
٢/ محاسبة كل من يثبت تورطه في أي تجاوز أو انتهاك لحقوق الإنسان، وفق القوانين العسكرية والإنسانية الوطنية والدولية، وبشفافية... وفي الفيديوهات تطهر شخصيات معروفة ويمكن تسميتها، ويجب القبض عليها فورا وإعلان هذا للراي العام المحلي والدولي.
٣/ التعاون مع المنظمات الحقوقية، الاقليمية والدولية لمراقبة سير التحقيقات وضمان العدالة والنزاهة التامة.
٤/ تجديد الالتزام المطلق بميثاق تحالف "تأسيس" ودستوره الانتقالي، اللذين يؤكدان على صون كرامة الإنسان وحظر أي شكل من أشكال الانتقام أو المعاملة المهينة.
إنّ الواجب الاني لقوات الدعم السريع – اليوم قبل الغد – هو إثبات قدرتها على التعلّم من أخطائها، وعلى التمييز بين الثورة والانتقام/الثأر، وبين القوة والمسؤولية.
فالمقاتل الثوري ليس من يقتل خصمه الأعزل، بل من ينتصر على غرائزه ويُخضع العنف لسلطة القيم- ونحن امام قيم لسودان جديد.
٥/ التحالفات… أخلاقٌ قبل أن تكون سياسة:
في ظلّ الهشاشة الأخلاقية التي تكشف عنها بقايا النظام القديم، وفي مواجهة خفة النخب الفاشلة والفلول وحرس السودان العجوز الذين يتربصون بمشروع السودان الجديد ويسعون لتشويهه بأي وسيلة، يصبح من الضروري توضيح معنى التحالفات الثورية بدقّة. فـتحالف "تأسيس" لا يقوم على الاندماج التنظيمي، بل هو إطار تنسيقي يجمع تنظيماتٍ وحركاتٍ متعدّدة، لكلٍّ منها هياكلها القيادية واستقلالها المؤسسي، وتوحدها قيادة سياسية مشتركة تعمل وفق ما نصّ عليه الميثاق والدستور الانتقالي المعلنان.
إنّ الدقة هنا واجبة، لأن التحالف لا يلغي استقلال التنظيمات المكوّنة له، بل يربطها جميعًا بمسؤوليةٍ معرفيةٍ وأخلاقيةٍ تجاه الميثاق الذي وحّدها — ميثاقٍ يُحرّم الاعتداء على المدنيين والأسرى، ويضع العدالة، والعدالة التاريخية، وعدم الإفلات من العقاب وحقوق الإنسان في قلب مشروعه لبناء السودان الجديد.
وبناءً عليه، فإن كل تنظيمٍ يتحمل المسؤولية المباشرة عن سلوك منسوبيه وأفعاله، لأن التحالف لا يُسقط مبدأ المسؤولية الفردية أو المؤسسية. وكما قال الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي:
"It's a very simple ethical point: you are responsible for the predictable consequences of your actions, you're not responsible for the predictable consequences of somebody else's actions."
فالمسؤولية الأخلاقية لا تُقاس بالنوايا أو الشعارات، بل بنتائج الأفعال التي يمكن توقّعها. ومن هذا المنطلق، فإن أي تجاوزٍ يرتكبه أي طرفٍ من أطراف التحالف يُعدّ خروجًا على الميثاق وخيانةً لمبادئ الثورة قبل أن يكون جريمةً قانونية، لأنّ التحالفات الثورية تُبنى على الأخلاق أولًا، وعلى الانضباط القيمي الذي يجعل من السياسة فعلَ وعيٍ ومسؤوليةٍ، لا وسيلةَ تبريرٍ أو إنكار، وعلي كل طرف في تحالف تأسيس تحمل مسؤولياته كاملة وغير منقوصة.
: ٦/ من المسؤولية إلى الإصلاح: واجب إعادة التأهيل والتدريب
على قيادة قوات الدعم السريع أن تعتبر هذه اللحظة اختبارًا أخلاقيًا هامًا في مسارها الثوري، لا يُقاس بحجم الأرض التي حُرِّرت، بل بقدرتها على تأسيس سلوك جديد يليق بمشروع تحرر إنساني لا انتقامي.
ويجب أن تُباشر فورًا في:
١/ إعادة تأهيل وتدريب قواتها على مبادئ القانون الدولي الإنساني وأخلاقيات الحرب، لضمان أن تُمارَس القوة ضمن حدود القانون، والثورة الضمير والعدالة.
٢/ إدماج ثقافة حقوق الإنسان في العقيدة القتالية عبر برامج تثقيفية مستمرة، تُعيد تعريف معنى الانتصار بوصفه حمايةً للكرامة لا إذلالًا للخصم.
٣/ محاسبة العناصر المنفلتة وتقديمها للعدالة، لأنّ الإفلات من العقاب يعني ببساطة إعادة إنتاج الجريمة، وتكريس منطق الفوضى الذي ثار عليه الناس أصلًا.
إنّ جيشًا ثوريًا لا يُحاسب نفسه، يُعيد إنتاج نفس البنية التي حاربها. ومن واجب تحالف "تأسيس" أن يُبرهن للعالم أنّه جاء لا ليُبدّل أسماء الجلادين، بل لينهي منطق الجلاد ذاته، ويؤسس لثورةٍ تقيم عدالتها على مواجهة الذات قبل الآخر.
لكن الأخطر من ذلك، هو هروب النخب السطحية والفاشلة من مواجهة جوهر ما يجري في السودان اليوم بخفة، جهل وانتهازية . فبينما يُعاد تشكيل التاريخ في الميدان، ما زالت هذه النخب تختبئ خلف بياناتٍ أخلاقية باردة، تلعن "العنف" في عمومه، لكنها تتغافل عن جذور الخطايا التاريخية التي أوصلتنا إلى لحظة الفاشر بمالها وماعليها- من الرق والاستعلاء العرقي، إلى استحواذ المركز على الدولة والثروة والسلاح منذ نشأتها.
هؤلاء يهربون إلى الإدانات السهلة، المريحة والسطحية لأنهم يخشون الاعتراف بأنّ ما يحدث ليس انحرافًا طارئًا، بل نتيجةٌ حتمية لبنية ظلمٍ عمرها قرن.
ولأنهم لا يملكون الشجاعة لمواجهة الذات، فإنهم يُدانون الجريمة دون أن يُقاربوا أسبابها، ويستنكرون القتل دون أن يعترفوا بمن صاغ أدواته الثقافية والسياسية.
إنّ الهروب إلى خطاب الإدانة الانتهازي لا يُنقذ أحدًا، بل يطمس الحقيقة: أنّ التجاوزات الفادحة بين السودانيين وبعضهم البعض هي مرآةٌ لما كُتم من تاريخٍ وذاكرة، ولما لم تُحسم من قضايا العدالة والمساءلة، من دارفور إلى جبال النوبة إلى الخرطوم و"الاحزمة السوداء" او"العشوائبات" في المدن الشمالية.
ولهذا، فإنّ الثورة الحقيقية اليوم ليست ضد من يرفع السلاح ظلمًا وحسب، بل ضد من يرفع القلم مرائية ونفاقًا، ضد مثقفين وسياسيين يختصرون المأساة في خطابٍ أخلاقيٍ مفرغٍ من التاريخ والسياق، ويُبيّضون وجوههم بإدانة الجرائم بينما يتغاضون عن بنية الجريمة ذاتها.
إنّ لحظة الفاشر ليست مناسبة للشماتة ولا للحياد، بل دعوةٌ عميقة لمحاسبة الذات الجماعية، ولميلاد وعيٍ جديد يُعلن أن العدالة هي الشرط الأول لأي انتصار او بناء. ولمن يريدوا تغييرا ثوريا، أنّ الثورة التي لا تواجه ذنوب ماضيها ستظل تلد طغاتها الجدد.

: ٧/ تجاوزات حقوق الإنسان… ليست جديدة ولكنها الآن أمام الكاميرا
إنّ ما نشهده اليوم من مشاهد عنفٍ مروّعة ليس انحرافًا عن التاريخ السوداني، بل هو امتدادٌ مباشر له. فالعنف الذي تفجّر أمام الكاميرات في الفاشر وفي غيرها من المدن، هو في جوهره عودة الدجاج إلى عشه – أو كما يقول المثل الإنجليزي الذي استعاره الزعيم الثوري الأمريكي مالكوم إكس ذات يوم حين قال عندما تم اغتيال جون ف كندي، الرئيس الامريكي
"The chickens have come home to roost"

أي إنّ الجرائم التي زرعتها الدولة في وعي مواطنيها، والعنف الذي ربّت عليه مؤسساتها لعقود، قد عاد اليوم ليحصدها الجميع بلا استثناء...
فمنذ لحظة الاستقلال، لم تكن الدولة السودانية دولة مواطنين ومواطنة، بل جهازًا سلطويًا يُنتج الطاعة ويقمع النقد.
وكما قال ميشيل فوكو ما معناه:
""العنف ليس طارئًا على الدولة الحديثة، بل هو جزءٌ من بنيتها الحيوية، وآليةٌ أساسية تُنتج من خلالها النظام وتُعيد عبرها إنتاج السيطرة"
لقد ربّت الدولة السودانية أجيالًا كاملة في مدارسها وثكناتها ومساجدها على الخضوع والخوف لا على التفكير، وربتهم على تقديس السلاح لا على احترام الحياة. هكذا، حين انهارت السلطة المركزية، لم يولد السلام بل تفجّر العنف، لأن المجتمع كان قد تشرّب أدوات القسوة التي استخدمها الحكام لعقود، فعلام التباكي؟
وحين قالت حنة أرندت إنّ "الدولة حين تفقد قدرتها على الإقناع، تلجأ إلى العنف كبديلٍ عن الشرعية"، كانت تصف ما عاشه السودان منذ بداياته الحديثة. فقد فشلت النخب في بناء دولةٍ تستمد شرعيتها من العدالة، فاستعاضت عنها بجيشٍ وأجهزة أمنية ومليشيات. ومع مرور الزمن، تحوّل العنف من وسيلة إلى ثقافة، ومن استثناء إلى قاعدة، حتى صار القتل جزءًا من المخيال الجمعي والسياسة اليومية، والعنف والسادية، وامتلاك البشر واستعبادهم موضوعات يتغني بها الشعراء...فعلام التباكي!
يقول فرانتز فانون في معذّبو الأرض:
"الاستعمار يغرس في المستعمَر قابلية العنف، وحين يرحل، يترك وراءه جيلًا لا يعرف سوى لغة السلاح."
لقد ورثت النخب السودانية هذا العنف من المستعمر ثم أضفت عليه ملامحها: العنف باسم الدين، والعنف باسم الرجولة، العنف باسم القبيلة، والعنف باسم الدين والعنف باسم وبأيدي الجيش والقوي الأمنية... وهكذا، حين نرى اليوم من يقطع رأسًا ويرفعها مبتسما انتصارا، او يبقر بطن إنسانيا اخر ويستعرض بأحشائه أو يصفّي أسيرًا، فذلك ليس فعلًا فرديًا طارئًا، بل نتاجٌ تاريخي لبنيةٍ تربوية وسياسية أنتجت مواطنين قابلين لممارسة الوحشية بلا وعيٍ أو ندم.
ووقد اشرنا في مقال سابق الي مقولة المفكر الافروامريكي جيمس بالدوين في
The Fire Next Time:
"ما لم نواجه ماضينا كما هو، فسوف يدمّرنا. لأن ما لا نواجهه، نعيد إنتاجه في صورٍ أكثر وحشية."
وهذا ما حدث في السودان: كلّ جريمةٍ تقع اليوم هي إعادة إنتاج لجرائمٍ قديمة لم يُحاسَب مرتكبوها، وكلّ طلقةٍ تُطلق الآن تحمل في صداها أصوات الذين قُتلوا في الجنوب، وفي دارفور، وفي جبال النوبة، وفي الخرطوم...وحينها لم تكن الكاميرات حاضرة.
لقد "عاد الدجاج إلى عشه" لأننا لم نطهّر البيت من العفن. إنّ الدولة التي درّبت أبناءها على القتل لن تُنقذهم اليوم من الكراهية التي أنجبتها، وفي هذا حديث طويل سنعود اليه. اما بالنسبة لثوار السودان الجديد، فلا معنى لأي انتصارٍ عسكري ما لم يُقرن بقيم ثوريةٍ عميقة في والعدالة والمحاسبة والوعي الجمعي الذي يدرك لاحصانة من العقاب لاي كان.
فمن دون ثورة في الاعتراف والحقوق والمواطنة قبل السياسة، سيبقى السودان يدور في الحلقة نفسها، وسيظل كل جيلٍ يحصد ما زرعته أيدي سلفه من دمٍ وصمتٍ وإنكار!

اخيرا: الانتصار بلا قانونٍ يفسده والعدالة واجبة والرحمة قاعدة:
إنّ انتصار الفاشر يجب أن يُفهم بوصفه انتصارًا على الذهنية القديمة بقدر ما هو انتصارٌ على نظام بورتسودان.
وعلى قوات الدعم السريع وتحالف "تأسيس" أن يبرهنا للعالم أنّ هذه الثورة لا تُعيد إنتاج دورات العنف، بل تفتتح عهدًا جديدًا من المسؤولية الأخلاقية والسياسية.
فالتحرر الحقيقي لا يُقاس بعدد المدن المحرّرة، بل بقدرتنا على تحرير ذواتنا من نزعات الثأر والانتقام، وعلى صون إنسانيتنا وسط ركام الحرب. الانتصار الأخلاقي هو وحده الذي يمنح أيّ نصرٍ معناه، لأنّ الثورات التي تهزم أعداءها وتُهزم أمام مرآتها تخسر التاريخ وإن ربحت الأرض.
تحرير الفاشر حدثٌ تاريخي يُستحق الاحتفاء به، لكن المجد الأعمق لا يُقاس بالمساحات التي تُستعاد، بل بالقيم التي تُشيّد عليها الدولة الجديدة: سيادة القانون، حماية الضعفاء، وسرعة التحقيق والمحاسبة والاعلان عنها نهارا جهارا.
إن التزام قيادة الدعم السريع وتحالف "تأسيس" بالخطوات المعلنة، من تحقيقٍ مستقل، ومساءلةٍ قضائية، وإشراكٍ فعليٍّ للمجتمع المدني والمنظمات الدولية، إلى برامج التدريب والفرز- هو الامتحان الحقيقي لشرعية هذا الانتصار. فالإخفاق في هذا المسار سيعيد إنتاج دوائر العنف، بينما النجاح فيه سيكون تأسيسًا لدولةٍ تُعلي من كرامة الإنسان وتُنهي ثقافة الإفلات من العقاب.
في زمنٍ طال فيه تعطيل العدالة في السودان، تلوح اليوم فرصة نادرة: أن يُظهر من حرّر الفاشر أنّ البندقية يمكن أن تحرس القانون لا أن تتقدّم عليه، وأن الثورة تُقيم سلطانها على العدالة قبل أيّ شيء آخر.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)