الاتحاد الأفريقي.. تطفيف الكيل كتبه د. ياسر محجوب الحسين

الاتحاد الأفريقي.. تطفيف الكيل كتبه د. ياسر محجوب الحسين


10-28-2025, 05:21 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1761668466&rn=0


Post: #1
Title: الاتحاد الأفريقي.. تطفيف الكيل كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 10-28-2025, 05:21 PM

05:21 PM October, 28 2025

سودانيز اون لاين
د. ياسر محجوب الحسين-UK
مكتبتى
رابط مختصر



أمواج ناعمة


شهدت مدغشقر خلال الأسابيع الماضية تحوّلا سياسيا دراماتيكيا أعادها مجددا إلى قلب الجدل داخل الاتحاد الأفريقي حول معايير تصنيف التغييرات في الحكم بين «الثورة» و«الانقلاب». فقد أطاحت موجة احتجاجات شبابية عارمة بالرئيس أندري راجولينا الذي غادر البلاد تحت ضغط الشارع، لتتولى السلطة قيادة عسكرية برئاسة العقيد مايكل راندريانيرينا، قائد وحدة النخبة المعروفة باسم «كابسات». وفي مشهد مألوف في تاريخ القارة، أعلن راندريانيرينا أن ما جرى «ليس انقلابًا»، مؤكدًا أن الانقلاب الحقيقي هو «حين يقتحم الجنود القصر وهم يطلقون النار ويسفكون الدماء»، أما ما حدث في بلاده – كما يقول – فكان استجابة لمطالب الشعب وسعيًا لتصحيح المسار. لكن الاتحاد الأفريقي رأى غير ذلك، فسارع إلى تعليق عضوية مدغشقر واعتبر ما جرى «تغييرًا غير دستوري للحكومة»، بينما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى العودة للنظام الدستوري وسيادة القانون.

غير أن جذور الأزمة في مدغشقر أعمق من مجرد صراع بين الشارع والمؤسسة العسكرية. فالرئيس المطاح به أندري راجولينا نفسه لم يكن ثمرة عملية ديمقراطية نزيهة، بل جاء إلى الحكم أول مرّة عام 2009 إثر انقلاب أطاح بالرئيس مارك رافالومانانا، بدعم من قطاعات من الجيش وتشجيع ضمني من فرنسا التي كانت أول من اعترف بسلطته. وبعد ضغوط أفريقية ودولية، أُجريت انتخابات رئاسية عام 2013 وفاز بها راجولينا، لكن تلك الانتخابات جرت في ظل انقسام سياسي حاد وفقدان واسع للثقة الشعبية. وعلى مدى سنوات حكمه، اتُّهم بتعزيز النفوذ الفرنسي ومنح شركات فرنسية امتيازات اقتصادية وعسكرية كبيرة، ما غذّى شعورًا عامًا بأنه أقرب إلى ممثل لمصالح باريس منه إلى زعيم وطني. وبلغت الأزمة ذروتها عام 2023 حين كشفت تقارير أنه حصل على الجنسية الفرنسية منذ 2014، في واقعة اعتبرها كثير من الملغاشيين خيانة عظمى. ومع تصاعد الاحتجاجات الشبابية عام 2025 وتفاقم الغضب الشعبي، وجد راجولينا نفسه أمام موجة رفض جارفة انتهت بهروبه على متن طائرة عسكرية فرنسية، في مشهد بدا للكثيرين تجسيدًا لارتباطه الوثيق بالمصالح الخارجية.

هذه الأحداث وضعت الاتحاد الأفريقي أمام اختبار جديد لمصداقيته في التعامل مع التغييرات السياسية في القارة. فبينما يؤكد الكولونيل راندريانيرينا أن تدخله لم يكن انقلابا بل «انحيازًا لإرادة الشعب»، لم يتردد الاتحاد في تصنيفه كانقلاب عسكري يستوجب العقوبة. هذه الازدواجية ليست جديدة، بل تكررت في أكثر من ساحة أفريقية. ففي السودان مثلا، اعتبر الاتحاد عام 2019 الإطاحة بعمر البشير «ثورة شعبية»، رغم أن الجيش هو من تدخل فعليًا لخلعه. لكن حين أقال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان حكومة عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021، واصفًا ما جرى بأنه «تصحيح للمسار»، تبنى الاتحاد سردية معاكسة واعتبره «انقلابا عسكريا»، وعلّق عضوية السودان منذ ذلك الحين، حتى بعد تشكيل حكومة مدنية بصلاحيات واسعة برئاسة كامل إدريس الموظف الأممي السابق.

وفي المقابل، تعامل الاتحاد الأفريقي مع حالة دولة أخرى بمعيار مختلف تماما. فحين أطاح وزير الدفاع في تلك الدولة بالرئيس المنتخب بعد ثورة شعبية، سارع إلى تعليق عضويتها باعتبار ما حدث «استيلاء غير دستوري على السلطة»، لكنه ما لبث أن رفع الحظر بعد انتخابات فاز بها قائد الانقلاب نفسه، رغم أن المعارضة وصفت انتخابات بأنها شكلية جرت تحت سيطرة السلطة العسكرية. هذا التناقض في التعامل بين الحالات المختلفة يثير تساؤلات جوهرية حول مدى مبدئية الاتحاد الأفريقي في تطبيق معاييره، وهل يُقاس التغيير السياسي بمعيار ثابت، أم بحسب موقع الفاعلين في شبكة المصالح الإقليمية والدولية؟

المفارقة أن الاتحاد الأفريقي الذي يرفع شعار حماية الدستور ورفض الانقلابات، يبدو في الواقع أقل التزامًا بما يعلن. فعندما يخدم التغيير مصالح قوى إقليمية نافذة أو يحظى بغطاء شعبي واسع، يميل الاتحاد إلى تسميته «ثورة»، أما إذا كان التغيير خارج معادلة النفوذ أو يهدد مصالح شركاء كبار، فإنه يُصنّف فورًا «انقلابًا». هذا التطفيف في الكيل السياسي يجعل مواقفه أقرب إلى الموازنة بين الضغوط الخارجية والمصالح الداخلية منه إلى الالتزام بالمبادئ التي أنشئ عليها.

في مدغشقر، لا يقتصر الأمر على التغيير السياسي فحسب، بل يمتد إلى جوهر العلاقة بين الشعوب الأفريقية ونخبها الحاكمة، وبين القارة وماضيها الاستعماري الذي لم يختفِ بعد. فالغضب ضد راجولينا لم يكن فقط بسبب الفساد وسوء الإدارة، بل لأنه يُنظر إليه كرمز لاستمرار الوصاية الفرنسية على الجزيرة. ومن هذا المنظور، تبدو الإطاحة به فعلًا وطنيًا بقدر ما هي احتجاج اجتماعي. ومع ذلك، فإن الاتحاد الأفريقي لم يرَ في المشهد سوى مشهد انقلاب عسكري يستوجب العقوبة، متجاهلا جذور الأزمة وأبعادها التاريخية والسياسية.

يبقى السؤال المفتوح: هل يملك الاتحاد الأفريقي معايير موضوعية لتحديد «التغيير غير الدستوري»، أم أن مواقفه تُصاغ وفق حسابات السياسة لا مبادئ العدالة؟ إن تجربة مدغشقر تفضح هشاشة هذا التوازن، إذ وجد الاتحاد نفسه مرة أخرى بين خيارين متناقضين: الدفاع عن الشرعية الدستورية من جهة، واحترام الإرادة الشعبية من جهة أخرى. فإذا كان الهدف هو دعم الحكم الرشيد والاستقرار، فإن التساهل مع الانقلابات حين تتماهى مع مصالح الكبار يفرغ مبادئه من مضمونها.

في خضم هذه المفارقات، تبدو مدغشقر اليوم مرآةً لتطفيف الكيل الأفريقي؛ حيث يختلف الميزان باختلاف الفاعلين، وتتبدل المفاهيم بين «الثورة» و«الانقلاب» تبعا للزاوية التي يُنظر منها. وهكذا يظل الاتحاد الأفريقي، في كل مرة، يُعيد تعريف العدالة على مقاس اللحظة، لا على مبدأ ثابت، في قارة لا تزال تبحث عن ميزان لا يُطفّف في السياسة كما لا يُطفّف في الكيل.