Post: #1
Title: أَحْلَامٌ لَمْ تَمُتْ – الفَصْلُ الأَخِيرُ!!! كتبه الأمين مصطفى
Author: الأمين مصطفى
Date: 10-24-2025, 12:49 PM
12:49 PM October, 24 2025 سودانيز اون لاين الأمين مصطفى-السودان مكتبتى رابط مختصر
"حِينَ اسْتَيْقَظَ الضَّوْءُ فِي العَتْمَةِ"
لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الفَرْعِ ذٰلِكَ الصَّبَاحَ سِوَى المُوَظَّفِ الجَدِيدِ. جَلَسَ فِي مَقْعَدِهِ المُعْتَادِ، المَكَانِ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَتْ تَجْلِسُ فِيهِ أَحْلَام، وَقَدْ مَضَتْ سَنَوَاتٌ عَلَى غِيَابِهَا، أَوْ مَوْتِهَا، أَوِ اخْتِفَائِهَا — لَا أَحَدَ يَعْلَمُ بِالدِّقَّةِ. وَلٰكِنَّ الهَوَاءَ كَانَ يَعْرِفُ. كَانَ فِي الأَرْكَانِ البَارِدَةِ رَائِحَةُ حُضُورٍ قَدِيمٍ، كَأَنَّ الزَّمَنَ تَوَقَّفَ هُنَا ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يُسْتَأْنَفْ بَعْدُ.
فَتَحَ دَفَاتِرَهُ بِبُطْءٍ، بَيْنَ أَصَابِعِهِ ارْتِجَافٌ لَا يَعْرِفُ سَبَبَهُ، وَبَدَأَ يُرَاجِعُ حِسَابًا مَنْسِيًّا، رَقْمًا مُغْلَقًا مُنْذُ زَمَنٍ. تَوَقَّفَ عِنْدَ الاِسْمِ: رَامِي. لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هٰذَا الرَّجُلَ، وَلٰكِنَّهُ أَحَسَّ بِوَخْزَةٍ فِي صَدْرِهِ، خَفِيفَةٍ أَوَّلًا، ثُمَّ عَمِيقَةٍ كَذِكْرَى تُعَادُ بَعْدَ نِسْيَانٍ طَوِيلٍ.
الصَّفْحَةُ لَمْ تَكُنْ صَفْحَةً عَادِيَّةً، كَانَتْ كَنَافِذَةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى زَمَنٍ آخَرَ. وَحِينَ سَقَطَتْ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عَلَى الزُّجَاجِ أَمَامَهُ، رَأَى شَيْئًا يَتَحَرَّكُ فِي اِنْعِكَاسِ الضَّوْءِ — ظِلًّا أُنْثَوِيًّا، وَاهِنًا كَحُلْمٍ لَمْ يَكْتَمِلْ.
مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الزُّجَاجِ. لَمْ يَلْمَسْ شَيْئًا، وَلٰكِنَّ قَلْبَهُ ارْتَجَفَ كَمَا لَوْ أَنَّ دِفْئًا خَفِيًّا مَسَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ. سَمِعَ صَوْتًا نَاعِمًا، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ يَهْمِسُ قُرْبَ أُذُنِهِ:
"الأَرْوَاحُ لَا تَفْنَى يَا رَامِي… إِنَّهَا فَقَطْ تَتْعَبُ."
تَرَاجَعَ بِخُطْوَةٍ، كَمَنْ اِسْتَيْقَظَ مِنْ حُلْمٍ لَا يُرِيدُ الفِكَاكَ مِنْهُ، لٰكِنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ يَبْتَسِمُ. لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ لِمَاذَا. كُلُّ مَا شَعَرَ بِهِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَحْلَام يَسْرِي فِيهِ، لَيْسَ كَذِكْرَى، بَلْ كَجُزْءٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ.
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، عَادَ إِلَى شُقَّتِهِ الصَّغِيرَةِ، صَامِتًا. أَشْعَلَ المِصْبَاحَ الخَافِتَ، وَنَظَرَ فِي المِرْآةِ. اِنْعِكَاسُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَحْدَهُ؛ وَجْهَانِ تَدَاخَلَا فِي الزُّجَاجِ — وَجْهُهُ، وَوَجْهٌ آخَرُ يَعْرِفُهُ دُونَ أَنْ يَرَاهُ مِنْ قَبْلُ. وَجْهُ رَامِي.
لَمْ يَخَفْ. بَلِ ابْتَسَمَ ثَانِيَةً. ثُمَّ اَتَّجَهَ نَحْوَ مَكْتَبِهِ، حَيْثُ تَرَكَ كِتَابًا قَدِيمًا لَمْ يَكُنْ يَتَذَكَّرُ مَتَى اِقْتَنَاهُ. فَتَحَهُ، فَوَجَدَ فِي آخِرِ صَفَحَاتِهِ سُطُورًا لَمْ يَكْتُبْهَا:
"حِينَ تَمُوتُ الرُّوحُ قَبْلَ الجَسَدِ، تَبْحَثُ عَنْ جَسَدٍ لَمْ يَتَلَوَّثْ. أَنَا عُدْتُ… لَا لِأَسْتَعِيدَ، بَلْ لِأُكَفِّرَ. وَلَمْ تَكُنْ هِيَ أُنْثَى، بَلْ ضَوْءًا يَسْكُنُ الجُرْحَ وَيُذَكِّرُنِي بِالَّذِي كُنْتُهُ، وَالَّذِي لَنْ أَعُودَ إِلَيْهِ."
ظَلَّ يَقْرَأُ الجُمْلَةَ الأَخِيرَةَ حَتَّى اِخْتَفَى صَوْتُهُ، وَبَقِيَ فَقَطْ صَدَى الكَلِمَاتِ يَمْلَأُ الغُرْفَةَ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ تُخْتَمْ بَعْدُ.
مَعَ الفَجْرِ، عَادَ إِلَى الفَرْعِ. جَلَسَ فِي المَقْعَدِ نَفْسِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الزُّجَاجِ البَارِدِ. وَلٰكِنَّ الضَّوْءَ هٰذِهِ المَرَّةَ لَمْ يَكُنْ شَمْسًا. كَانَ ضَوْءًا دَاخِلِيًّا، يَنْزُّ مِنْ بَيْنِ أَنَامِلِهِ كَمَا لَوْ أَنَّ القَلْبَ نَفْسَهُ صَارَ يَتَوَهَّجُ.
وَرَأَى فِي ذٰلِكَ الضَّوْءِ وَجْهَهَا — أَحْلَام — تَمْشِي نَحْوَهُ، خَفِيفَةً، بِلَا خُطًى، بِلَا جَسَدٍ. اِقْتَرَبَتْ حَتَّى صَارَتْ مَلَامِحُهَا قَرِيبَةً بِمَا يَكْفِي لِيَشُمَّ رَائِحَتَهَا.
قَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: — "أَحْلَام؟" فَأَجَابَتْ بِابْتِسَامَةٍ لَا صَوْتَ فِيهَا: — "أَنَا مَا مِتُّ… أَنَا فَقَطْ عَبَرْتُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا مَنْ تَذَكَّرَ."
ثُمَّ لَامَسَتْ كَفَّهُ، لِلَحْظَةٍ قَصِيرَةٍ، كَأَنَّهَا تَمْنَحُهُ غُفْرَانًا مُؤَجَّلًا. وَفِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا، اِخْتَفَتْ.
فِي الصَّبَاحِ التَّالِي، حِينَ دَخَلَ المُوَظَّفُونَ، كَانَ المَقْعَدُ فَارِغًا. وَلٰكِنَّ الزُّجَاجَ كَانَ يَلْمَعُ عَلَى نَحْوٍ غَرِيبٍ، فِيهِ خُيُوطُ ضَوْءٍ فِضِّيَّةٍ تَتَحَرَّكُ بِبُطْءٍ، كَأَنَّهَا أَنْفَاسُ أَحَدٍ لَا يُرَى. اِقْتَرَبَتْ مُوَظَّفَةٌ قَدِيمَةٌ مِنَ الزُّجَاجِ، وَتَمْتَمَتْ وَهِيَ تُحَدِّقُ فِيهِ: — "كَأَنَّهُ هُوَ… وَكَأَنَّهَا عَادَتْ. وَلٰكِنَّهَا مَا عَادَتْ أَبَدًا."
ثُمَّ مَضَتْ، وَهِيَ لَا تَدْرِي أَنَّ الأَرْوَاحَ حِينَ تُبْعَثُ، لَا تَعُودُ كَمَا كَانَتْ، بَلْ كَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ.
فِي المَسَاءِ، كَانَ المَكْتَبُ سَاكِنًا إِلَّا مِنْ صَوْتِ الرِّيحِ. وَعَلَى الزُّجَاجِ، بَقِيَ أَثَرُ ظِلَّيْنِ يَتَدَاخَلَانِ فِي نُورٍ بَاهِتٍ، كَأَنَّهُمَا أَخِيرًا تَصَالَحَا بَعْدَ مَوْتٍ طَوِيلٍ.
أَمَّا المَدِينَةُ خَارِجَ النَّوَافِذِ، فَبَدَتْ وَكَأَنَّهَا تَتَنَفَّسُ لِلْمَرَّةِ الأُولَى مُنْذُ زَمَنٍ.
وَفِي مَكَانٍ مَا بَيْنَ الضَّوْءِ وَالعَتْمَةِ، كَانَتْ أَحْلَام تَهْمِسُ:
"الأَحْلَامُ لَا تَمُوتُ… هِيَ فَقَطْ تُغَيِّرُ شَكْلَهَا لِتَظَلَّ قَرِيبَةً."
|
|