السودان .. غياب الوعي والأخلاق كتبه الطيب الزين

السودان .. غياب الوعي والأخلاق كتبه الطيب الزين


10-23-2025, 11:40 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1761216004&rn=0


Post: #1
Title: السودان .. غياب الوعي والأخلاق كتبه الطيب الزين
Author: الطيب الزين
Date: 10-23-2025, 11:40 AM

11:40 AM October, 23 2025

سودانيز اون لاين
الطيب الزين-السويد
مكتبتى
رابط مختصر




كاتب وباحث في قضايا القيادة والإصلاح المؤسسي.

في قلب المأساة السودانية تظهر جدلية الوعي والأخلاق.
فحين يغيب الوعي، تغيب الأخلاق، وبالتالي يغيب الضمير، ويغيب الفعل الصالح الذي يفيد المجتمع.
هذه الجدلية ليست نظرية فحسب، بل هي مفتاح لفهم كيف تحوّلت الدولة السودانية إلى غنيمة، وكيف إنحدر سلوك الساسة إلى صراع على الغنائم لا على المبادئي.
منذ فجر الإستقلال، تصدّر المشهد قادة الطائفية من الأنصار والختمية دون أن يمتلكوا مشروعا وطنيا أو تصورا أخلاقيا للدولة.
كان صراعهم على السلطة أقرب إلى تنازع على الإرث منه إلى بناء وطن. غياب الوعي جعلهم يتصارعون بلا قيم، وفتحوا الباب أمام تدخل العسكر الذين دخلوا السياسة لا بوصفهم حماة، بل أوصياء ثم سادة. ومع العسكر، ظهر الساسة الانتهازيون الذين تخلّوا عن ضميرهم ليطبلوا للطغاة، لا طلبا للعدالة، بل للبطون والجيوب. ثم جاء قادة الحركات المسلحة، لا بوصفهم ثوارًا، بل قطاع طرق جعلوا من السلاح طريقا إلى الثروة والسلطة لا إلى التحرير. وهكذا تحوّلت الدولة خلال سبعة عقود إلى مأكلة لا مؤسسة، إلى سلطة بلا أخلاق، وحكم بلا رؤية.
من بين أخطر تجليات غياب الوعي، كان صعود الإسلام السياسي ممثلا في الجبهة القومية الإسلامية بقيادة حسن الترابي. هذه الجبهة لم تكن حركة دينية إصلاحية، بل مشروعا سلطويا وظّف الدين كأداة للهيمنة، وحوّله إلى مؤسسة مغلقة وشبكة مصالح معقدة، أقرب إلى بنية مافيوية منها إلى تنظيم سياسي. استخدمت أموال الخليج، وعلى رأسها الدعم القطري، لتوسيع نفوذها لا لنشر المعرفة أو العدالة، بل لتكريس التجهيل والتضليل. في سنوات حكمها التي امتدت لثلاثة عقود مظلمة، خسر الشعب السوداني كل شيء: سياسيا بانهيار المؤسسات وتكميم الحريات، اقتصاديا بنهب الموارد وتدمير الإنتاج، واجتماعيًا بتفكيك النسيج الوطني وتحويل الدين إلى أداة فرز واستقطاب. الإسلام السياسي في السودان لم يكن مشروعا روحيا، بل نزنس سلطوي، حوّل الدين إلى سلعة، والسلطة إلى غنيمة، والمجتمع إلى سوق للولاء. واليوم، يعيش السودان أسوأ كارثة في المنطقة – إن لم يكن في العالم – بسبب هذا النموذج الذي دمّر الدولة من داخلها، وجرّدها من معناها الأخلاقي والسياسي. وما لم يُفكك هذا الإرث، ويُعاد بناء العلاقة بين الدين والمجتمع على أساس القيم لا المصالح، فإن كل محاولة لبناء الدولة ستظل رهينة لهذا الخراب المؤسسي.
وفي قلب هذا الخراب، يُهمّش المنتجون الحقيقيون: الزراع والرعاة الذين يشكّلون أكثر من 70% من الدخل الوطني، ويُقصَون من مواقع القرار، رغم أنهم يشكّلون القاعدة الاقتصادية والاجتماعية للدولة. هؤلاء لا يملكون إعلاما ولا سلاحا، لكنهم يملكون الأرض والعمل والقدرة على الإنتاج. في المقابل، تتكوّن المافيا الحاكمة من ضباط الجيش والشرطة والأمن، ومن قادة الحركات المسلحة الذين تحوّلوا إلى أمراء حرب، ينهبون باسم القضية، ويتقاسمون السلطة كغنيمة. تفكيك هذه المافيا ليس خيارا تنظيميا، بل ضرورة أخلاقية وتاريخية، إذا أردنا أن نعيد للدولة معناها، وللمجتمع توازنه.
لا بد من وضع حد لعبث البندقية المأجورة، التي تهدم الوطن وتصادر حريات الناس وتنهب ثروات البلاد من بترول وغاز وذهب وصمغ عربي وثروة حيوانية. السودان من أغنى دول العالم بالموارد الطبيعية، لكن هذه الثروات ضائعة بسبب النشاط الطفيلي في المركز، الذي يحتكر السلطة والثروة ويقصي المنتجين في الهامش. لا يعقل أن يغنى الطفيلي في المركز ويفقر المنتج في الهامش. هذا الوضع غير مقبول، ويجب أن يُعاد صياغة المشهد الوطني ليكون الهامش المنتج هو صاحب المصلحة الحقيقية في بناء دولة القانون والمؤسسات، دولة تقوم على العدالة في توزيع العائدات، لا على إحتكارها.
الدولة التي نريدها ليست تلك التي ورثناها، بل تلك التي نصنعها من جديد: لا دولة الطائفة، أو البندقية، أو القبيلة، بل دولة المجتمع بكل مكوناته، قاعدتها الأساسية المنتجون، وتستمد شرعيتها من الشعب، ومن القيم والأخلاق، ومن العمل، والإخلاص، والتفاني، ونكران الذات. إنها دولة لا تُنجز بالانقلابات أو المساومات أو الفساد، بل تُنجز في الفضاء الطلق للإنفتاح السياسي، حيث تُحترم التعددية، ويُقصى الاستبداد، ويُحتفى بالإختلاف بوصفه مصدراً للثراء الوطني لا ذريعة للإقصاء.
هذه الدولة ما زالت مهمة تنتظر الإنجاز. ولن تُنجز إلا حين يستعيد المجتمع وعيه، ويسترد أخلاقه، ويعيد تعريف السياسة بوصفها خدمة لا سلطة، ومسؤولية لا غنيمة.