استراحة: الوباء الذي أحرق طِيبة — من الدعوة إلى الدولة إلى الرماد كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد

استراحة: الوباء الذي أحرق طِيبة — من الدعوة إلى الدولة إلى الرماد كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد


10-22-2025, 05:26 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1761107203&rn=0


Post: #1
Title: استراحة: الوباء الذي أحرق طِيبة — من الدعوة إلى الدولة إلى الرماد كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد
Author: احمد التيجاني سيد احمد
Date: 10-22-2025, 05:26 AM

05:26 AM October, 22 2025

سودانيز اون لاين
احمد التيجاني سيد احمد-ايطاليا
مكتبتى
رابط مختصر






«استعادة الثورة لا تكون بتكرارها، بل بتصحيح مسارها… وكفانا أجيالًا كتبت فأعتمت! صدقوني، نحن في زمنٍ صار فيه بصيص النور هو العتمة نفسها.»







الملخّص التنفيذي
يستعرض هذا المقال رحلة السودان من لحظة احتراق الطيبة السودانية — تلك السجية الأخلاقية التي شكّلت جوهر الهوية الوطنية — إلى محاولات استعادتها ووعيها من جديد.

أقدّم لكم، أيها القرّاء الأفاضل، قراءةً فلسفية وتاريخية لما أسمّيه «الوباء الذي أحرق طِيبة»؛ أي الفكر الذي حوّل الدين إلى سلطة، والولاء إلى بديلٍ عن الكفاءة، والتمكين إلى مشروعٍ لتجفيف الضمير.

ينطلق المقال من الجذور القديمة للأزمة — التعليم الطائفي، والتبعية الاقتصادية، والهوية الممزقة — وصولًا إلى لحظة العدوى الفكرية التي تحوّلت إلى دولة تمكينٍ استبدلت الدولة بالحزب والدين بالولاء. ثم يتناول كيف أدلج الكيزان الجيش، وكيف تسلّل المرض ذاته إلى مفاصل القوة الجديدة قبل أن تواجه امتحان التحوّل من السلاح إلى الدستور.

وفي محورٍ رئيس، أقرأ لكم خطاب الرئيس محمد حمدان دقلو (٢١ أكتوبر ٢٠٢٥) بوصفه تجسيدًا للحظة وعيٍ سياسي وأخلاقي، أعلن فيها نهاية مرحلة التمكين وبداية عهدٍ جديد من التحوّل المدني والدستوري.

ركّز القائد حميدتي على ثلاث رسائل جوهرية:

١️⃣ تسمية العدو الحقيقي — الحركة الإسلامية وأذرعها.

٢️⃣ تقدير المقاتلين ودعوتهم لحماية المواطن لا السلطة.

٣️⃣ تحذير الدول المتورطة في العدوان، والتأكيد على مبدأ السيادة الوطنية.

ويختتم المقال بفصل «حين احترقت الطيبة وبقي الدرس»، مؤكدًا أن السودان لن يُبنى إلا على الضمير، وأن استعادة الثورة لا تكون بتكرارها، بل بتصحيح مسارها؛ فما بعد الخطاب هو زمن الفعل، وزمن الفعل هو امتحان الطيبة حين تعود في ثوب الوعي.



الإهداء
إلى الشعراء الذين حفظوا الطيبة حين احترقت، إلى الذين كتبوا فصار حبرهم ماءً في الذاكرة، وإلى الذين صمتوا واكتفوا بالتنفّس في هدوءٍ — ليصل رماد الحريق إلى كل من شارك بالصمت في احتراق الوطن. فالنار لا تفرّق بين من أشعلها ومن دفّأ يديه بها.

قصائد وطيبة – حين كان الشعر مرآة الوطن
قبل أن تحترق الطيبة في دواخلنا، كان السودان بلد القصيدة التي تُعيد الناس إلى الله والوطن بصدقٍ وعفوية. كانت القصيدة تُقال لتواسي الفقراء وتُذكّر الأقوياء بأن العدل لا يُشترى، وكان الشعر سياجًا يحمي نقاء الناس من تلوث الخطاب الأيديولوجي والسياسي. كانت الكلمات تخرج من الحقول والمراكب والأسواق، من حناجرٍ تؤمن أن الوطن لا يُبنى إلا بالحب والكرامة. في القصيدة كان الإنسان مركز الكون، وكانت الطيبة قانونًا غير مكتوبٍ للعيش المشترك.

التمهيد الفلسفي للمقال: من الاستعارة إلى السؤال
مقدمة: غياب وسائل التجويد
يعود عنوان هذا المقال إلى استعارةٍ راسخةٍ في الوجدان السوداني، عن احتراق الطيبة بفعل وباء الفكر المزيّف. لكن ما جعل ذلك الاحتراق ممكنًا هو غياب وسائل التجويد: غياب المراجعة، والنقد الذاتي، وضياع الضمير العام الذي كان يفرّق بين الإيمان والتديّن، وبين الدعوة والسلطة.

وحين تمادى المثقّف في الكذب باسم الله، وقبل العالِم فتوى السلطان، واستُبدلت الكلمة بالمديح، ضاعت البوصلة، وضاع معها الميزان، وفقد الناس القدرة على التمييز بين الحقّ والزيف. تحوّل الوعي إلى طقسٍ فارغ، والصدق إلى شعارٍ مزيّن، والضمير إلى وظيفةٍ تُشترى وتُباع. فاحترقت الطيبة السودانية — تلك السجية التي كانت تُجمّل القسوة وتروّض القوة — بأيدي الذين ظنّوا أنهم يُجمّلون الدين فشوّهوا الإنسان. ومن هنا يبدأ السؤال: كيف نحيا بعد احتراق الطيبة؟

السوداني بين الطيبة والاختزال
وُصف السوداني طويلًا بأنه فقير، بن حلال، أمين — صفات تبدو في ظاهرها مدحًا، لكنها في جوهرها اختزالٌ ظالمٌ لإنسانٍ أعمق من الصفات العابرة. هي أوصافٌ وُلدت في زمنٍ أراد فيه المستعمِر والنخبة أن يطمئنا إلى أن هذا الشعب طيب بما يكفي ليُستدرج، وصبور بما يكفي ليُهمّش، وأمين بما يكفي ليُستغلّ في خدمة غيره. لكن الطيبة ليست ضعفًا؛ إنها قوة روحية تشبه صفاء الماء حين لا يُكدَّر. لقد أرادوا حصره في صورةٍ صغيرةٍ تصلح لبطاقة هوية، لكن السوداني — في جوهره — كائنٌ أخلاقيٌّ كبير، تتّسع روحه لما ضاق به الآخرون.

الوباء الذي أحرق طِيبة — الجذور القديمة
لم يبدأ هذا الوباء بانقلاب الكيزان في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، بل هو مرضٌ قديمٌ في تاريخ السودان الحديث، تسلّل منذ اللحظة التي فُصل فيها الدين عن الضمير وربط بالسلطة. منذ أن تحوّلت الدعوة إلى أداةٍ للنفوذ، والأخلاق إلى وسيلةٍ للكسب، بدأ احتراق الطيبة السودانية تدريجيًا.

العوامل التي مهّدت للوباء
١️⃣ التعليم الطائفي الذي بُني على الحفظ لا على النقد.
٢️⃣ التبعية الاقتصادية التي جعلت الفقر وسيلةً لضبط السلوك.
٣️⃣ الهوية الممزّقة بين العروبة والإفريقية.
٤️⃣ المركزية الموروثة التي أعادت إنتاج الاستعمار داخليًا.
٥️⃣ الخطاب الديني الممزوج بالسياسة الذي خدر الضمير العام.

من العدوى إلى التمكين
حين تحوّلت الفكرة إلى تنظيم، والوعظ إلى مشروعٍ للسلطة، بدأت مرحلة التمكين. فُتحت الأبواب أمام أيديولوجيا تقدّس الولاء وتحتقر الكفاءة، وأُعيدت صياغة الدولة لتصبح خزانًا بشريًا لخدمة الحزب.

الكيزان والاحتراق الذاتي
لم يحتج الوباء إلى عدو خارجي كي ينهار؛ فقد حمل في جيناته بذرة فنائه. بدأ الاحتراق حين تحوّل الشعار إلى سلعةٍ تُباع، والإيمان إلى رخصة عبورٍ للمناصب.

كيف أدلج الكيزان الجيش
لم يكن الجيش السوداني استثناءً من العدوى؛ فقد بدأ الكيزان مشروعهم الأخطر: أدلجة السلاح. تحوّل الجيش من مؤسسة وطنية إلى ذراعٍ حزبي مسلّح، وأُقصي الوطنيون لصالح الولاء التنظيمي.

الدعم السريع بين التجربة والاختبار
حين سقطت دولة التمكين تحت ثقلها، لم يسقط السلاح معها. وُلد الاختبار الحقيقي للقوة الجديدة من خلال ميثاقٍ ودستورٍ يحذّران: إما أن تعيد إنتاج الاستبداد، أو تتحوّل إلى تجربةٍ وطنيةٍ تُعيد تعريف القوة وتربطها بالدستور.

قراءة في خطاب الرئيس محمد حمدان دقلو (٢١ أكتوبر ٢٠٢٥)
كان الخطاب مساء الثلاثاء واضحًا كوضوح القادة النادرين، يعلن مرحلة وعي جديدة بثلاث رسائل متماسكة: للداخل، لقوات التأسيس، وللخارج. سمّى العدو الحقيقي — قيادات الحركة الإسلامية —، أشاد بالمقاتلين، وحذّر الدول الداعمة للإرهاب، مؤكدًا أن حماية المدنيين واجب وطني ودستوري.

ما بعد الخطاب — من القول إلى الفعل
الخطابات العظيمة لا تُقاس بما يُقال فيها بل بما يتغيّر بعدها. فما بعد الخطاب هو زمن الفعل، حيث يُختبر صدق الوعود وتتحوّل الكلمات إلى مؤسساتٍ وعدالة.

حين احترقت الطِيبة وبقي الدرس
احترقت الطيبة، لكن النار لم تأكل الجمر كله. بقي الدرس: أن السودان لا يُبنى بالشعارات بل بالضمير. ما بعد الحرب هو امتحان الطيبة حين تعود في ثوب الوعي.

د. أحمد التيجاني سيد أحمد
قيادي و موسس في تحالف تاسيس

٢٢ أكتوبر ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا



*من سلسلة مقالات الثورة والهوية السودانية – الجزء الجديد: استراحة الفكر والضمير*

تم التحقق بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي