تحولات الجيش السوداني بعد ثورة 1924- من أمل وطني إلى أداة استعمارية #

تحولات الجيش السوداني بعد ثورة 1924- من أمل وطني إلى أداة استعمارية #


10-15-2025, 04:22 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1760541774&rn=0


Post: #1
Title: تحولات الجيش السوداني بعد ثورة 1924- من أمل وطني إلى أداة استعمارية #
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 10-15-2025, 04:22 PM

04:22 PM October, 15 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





في عام 1924، هزّت ثورة شعبية الأراضي السودانية لتصبح علامة فارقة في التاريخ الوطني الحديث.
لم تكن الثورة مجرد انتفاضة ضد الحكم الثنائي البريطاني-المصري، بل مثّلت لحظة كشف عن هشاشة البنية العسكرية السودانية وقدرتها المحدودة على استيعاب طموحات التحرر الوطني.
الجيش السوداني، الذي كان يُفترض أن يكون حصنًا للسيادة، تحوّل إلى ساحة صراع بين مشروع الاستقلال وإرادة الهيمنة الاستعمارية.
هذا المقال يسعى إلى تحليل التحولات البنيوية والاجتماعية والوظيفية التي شهدها الجيش السوداني بعد 1924، في ضوء مقاربات مقارنة مع تجارب دول أخرى خضعت لنفس إعادة الهندسة العسكرية من قبل الاستعمار
مع الاستناد إلى رؤى خالد الكد، محمد عمر بشير، ويوشيكو كوريـتا.
أولاً: من الجيش المصري-السوداني إلى قوة دفاع السودان
أعقبت ثورة 1924 قرارات بريطانية صارمة بتفكيك الجيش المصري-السوداني التقليدي، خصوصًا بعد اغتيال السير لي ستاك، الحاكم العام البريطاني.
تم حل الوحدات التي أبدت ميولًا وطنية، وأُقصي الضباط المصريون والنخب السودانية المتعلمة، الذين شكلوا سابقًا جسراً بين المؤسسة العسكرية والحركة الوطنية.
وفي عام 1925، أُسست "قوة دفاع السودان" بقيادة بريطانية خالصة، مع تجنيد انتقائي من مناطق قبلية بعيدة عن التأثير المصري والعربي مثل دارفور وكردفان وجنوب السودان.
وكما يشير محمد عمر بشير (1983)، فقد كان الهدف هو خلق جيش "منزوع الهوية السياسية"، يدين بالولاء الكامل للمندوب السامي البريطاني لا للوطن الناشئ.
ثانيًا: التحولات الاجتماعية – من النخبة إلى القبلية
لم تقتصر التحولات على المستوى التنظيمي، بل امتدت إلى النسيج الاجتماعي للجيش. استُبعد خريجو كلية غوردون والمدارس العليا من الخدمة العسكرية، ما جعل الجيش مهنة للفئات الدنيا، وحرم النخبة المثقفة من دورها في التوجيه الوطني.
هذا الاستبعاد، كما يوضح خالد الكد (1984)، كان خطوة متعمدة لعزل المؤسسة العسكرية عن الحراك الاجتماعي الحديث. عززت بريطانيا كذلك سياسة "فرّق تسد"، فأنشأت وحدات على أساس قبلي وإقليمي، مما غرس الولاءات المحلية وأضعف الهوية الوطنية.
ثالثًا: من الدفاع الوطني إلى أداة القمع الاستعماري
تحوّلت وظيفة الجيش بعد 1924 من حماية الوطن إلى حماية المصالح البريطانية. فبدلاً من أن يكون جيشًا للحدود والسيادة، أصبح أداة قمع داخلي ضد المقاومة الوطنية.
فرضت الإدارة الاستعمارية رقابة على الحياة الفكرية والسياسية داخل الثكنات، ومنعت أي نشاط ثقافي وطني. وكما يصف بشير (1983)، أصبح الجيش “ميليشيا استعمارية بزي رسمي”، تنفذ الأوامر دون تفكير، بعد أن فُصلت عن أي مشروع وطني تحرري.
رابعًا: مقارنات استعمارية – من السودان إلى الهند وغانا والجزائر
تشابهت تجربة السودان مع تجارب استعمارية أخرى استخدمت ذات الاستراتيجية لإعادة هندسة الوعي العسكري:
في الهند البريطانية، أعادت بريطانيا تشكيل “الجيش الهندي” بعد تمرد 1857 بطريقة مشابهة؛ جرى تجنيد الأقليات الدينية والإثنية (السيخ والغوركا) لضمان السيطرة على الأغلبية الهندوسية والمسلمة، وفق دراسات “King, 2005”.
في غانا، بعد أحداث كوماسي (1900)، تم تأسيس "قوة الساحل الذهبي" بنفس النمط الذي طُبّق في السودان، إذ تم استبعاد المثقفين الأفارقة، وخلق طبقة من الجنود الموالين للنظام الاستعماري (Bening, 1976).
في الجزائر الفرنسية، شُكّل "السباه" من أبناء القبائل، ليكونوا أداة لقمع الثورات الجزائرية. تكرر هذا النموذج في السودان عبر الاعتماد على جنود من مناطق نائية لضمان الولاء.
في مصر، بعد ثورة 1919، فُرضت قيود مشابهة على الكلية الحربية وعلى تولي الضباط ذوي الميول الوطنية مناصب عليا. هذه السياسة المشتركة بين السودان ومصر هدفت إلى تعطيل تشكّل جيش وطني عابر للطبقات.
تُظهر هذه المقارنات أن الاستعمار البريطاني اتبع منهجًا ثابتًا في إدارة الجيوش في المستعمرات: خلق مؤسسة قوية عسكريًا، ضعيفة وطنيًا، ومنزوعة الفكر.
خامسًا: التداعيات طويلة الأمد
تسببت هذه السياسات في فصل عميق بين الجيش والمجتمع المدني السوداني. لم يظهر جيل من الضباط الوطنيين إلا في الأربعينيات والخمسينيات، بعد تراجع السيطرة البريطانية. لكن ذلك الجيل وُلد داخل مؤسسة صُممت أصلًا لتكون غير سياسية، مما جعل تدخلها اللاحق في السياسة مشوبًا بالتناقض.
لقد أفرزت تلك المرحلة جذرًا تاريخيًا للانقلابات اللاحقة، بدءًا من 1958، حين تحولت المؤسسة العسكرية إلى فاعل سياسي لا يعرف التوازن بين الأمن والسيادة الوطنية.
سادسًا: رؤى نقدية
يرى خالد الكد (1984) أن الاستعمار لم يكن يسعى فقط إلى السيطرة العسكرية، بل إلى تفكيك الوعي الوطني عبر خلق “عسكر بلا ذاكرة”.
أما محمد عمر بشير (1983)، فيصف إعادة تشكيل الجيش بأنها “عملية اغتراب وطني”، لأن الجيش أصبح يمثل مصالح الحاكم لا المحكوم.
ويؤكد يوشيكو كوريـتا (2002) أن تجربة علي عبد اللطيف وثورة 1924 كشفت مبكرًا عن صراع بين الوطنية الحديثة والعقل العسكري الاستعماري.
إرث لم يندثر
كانت إعادة تشكيل الجيش السوداني بعد ثورة 1924 جزءًا من مشروع استعماري شامل لتفكيك مشروع الدولة الوطنية.
لقد زرعت تلك الحقبة بذور التوتر المزمن بين العسكري والمدني، وهي البذور التي ما زالت تنمو حتى اليوم في أشكال مختلفة من عسكرة السياسة وإضعاف الوعي المدني.
إن فهم هذا الإرث لا يقتصر على قراءة الماضي، بل هو شرط أساسي لأي محاولة لإعادة بناء جيش وطني قائم على الانتماء والاحتراف لا الولاء السياسي.

المراجع

خالد الكد. الأفندية والقومية السودانية. الخرطوم: دار الثقافة، 1984.

محمد عمر بشير. تاريخ الحركة الوطنية في السودان. الخرطوم: جامعة الخرطوم، 1983.

Yoshiko Kurita. Ali Abdel Latif and the 1924 Revolution. Tokyo: University Press, 2002.

J. King. Colonial Military Policy in Africa: Structures and Social Impacts. London: Routledge, 2005.

A. Bening. Colonial Administration and Social Change in the Gold Coast. Accra: Legon Press, 1976.