Post: #1
Title: المدنيون بين نار المليشيا الإرهابية وزيف العدالة الدولية كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 10-13-2025, 11:32 AM
11:32 AM October, 13 2025 سودانيز اون لاين د. ياسر محجوب الحسين-UK مكتبتى رابط مختصر
أمواج ناعمة
تتصاعد في الأفق السوداني سحب الموت والدمار، محملةً برائحة البارود والخذلان. فمن دارفور وكردفان ومن قبل ولاية الجزيرة، والخرطوم، تتوحد المآسي رغم اختلاف الجغرافيا. قرى تُمحى من الخرائط، عائلات تُباد في صمت، ومدن كانت مأوى للنازحين تحوّلت إلى مستنقعات دماء. خلف كل صورة دامية، مأساة إنسانية تتوارى خلف جدران النسيان أو التناسي، فلا العدالة تنصفها، ولا الذاكرة تحفظها. في شمال دارفور، ترقد مدينة الفاشر على صفيح من الجمر. حصار خانق يطبق على أنفاسها منذ شهور طويلة، تفرضه قوات الدعم السريع، فتُمنع الإمدادات الإنسانية والغذائية والطبية، ويُترك أكثر من مليون ونصف إنسان لمصيرهم، بينهم مئات الآلاف من النازحين الذين لجؤوا إلى المدينة فرارا من رصاص سابق، ليجدوا أنفسهم اليوم تحت قذائف جديدة. القصف العشوائي الذي لا يفرّق بين دار ومستشفى، وبين جريحٍ ومقاتل، جعل من الفاشر لوحةً للفناء. تقارير أممية تؤكد أن المرافق الصحية استُهدفت عمدا، فخرجت أغلبها عن الخدمة، في انتهاكٍ سافرٍ لكل القوانين الإنسانية. وحين تُدمَّر المستشفيات، يصبح الألم نفسه بلا علاج، ويغدو الجرحى أسرى للوقت والموت. حتى سبتمبر الماضي، بلغ عدد النازحين داخليا أكثر من 10.2 مليون شخص فهو رقم يوازي خمس سكان البلاد. أما عدد القتلى المدنيين، فقد تجاوز 25 ألفا منذ أبريل 2023، بينهم آلاف قُتلوا على أساس الهوية العرقية. مأساة تتحدث بلغة الأرقام، لكنها تُروى بدموع الأطفال، الذين شكّلوا نحو 40% من الضحايا. ليست هذه الحرب سوى فصلٍ جديد من روايةٍ قديمة، حيث يتحول التهميش إلى وقودٍ للصراع. الفرق اليوم أن العنف لم يعد سياسيا فحسب، بل صار اقتصادا مربحا تديره الميليشيات بدماء الأبرياء. الخطاب العرقي أصبح غطاءً لسباقٍ محموم نحو الذهب والأرض، نحو السيطرة على الثروة الزراعية في الجزيرة والمناجم في دارفور. إنها حرب من أجل الموارد، تُروَّج بشعارات الهوية. التقارير الحقوقية الأخيرة تتحدث عن جرائم حرب وانتهاكات قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، تشمل استهداف المدنيين، وتدمير البنى التحتية، بل وتواترت أنباء عن استخدام أسلحة كيماوية من قبل مليشيا الدعم السريع، وهي جريمة لا تضعها في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي فحسب وإنما تكشف مدى خطورتها على الأمن والسلم في دائرة أوسع بكثير من حدود السودان الجغرافية. وبحسب تقرير «العدالة الدولية» لعام 2025، لم يُحقق إلا في أقل من 2% من جرائم الحرب منذ عام 2003، لتظل العدالة في السودان صوتا خافتا وسط ضجيج البنادق. ورغم كل هذا الجحيم، تنبض في عمق البلاد خلايا من الأمل. مبادرات شبابية وغرف طوارئ مدنية تعمل في الخفاء، توثّق الجرائم، وتُسعف الجرحى، وتبث الحياة في نسيجٍ اجتماعي ممزق. هؤلاء الشباب ليسوا فقط شهودًا على المأساة، بل حرّاس لفكرة الوطن في زمن التشرذم. في ظل غياب الدولة، صار المجتمع المدني هو الدولة الممكنة، والخيط الأخير الذي يربط الناس بفكرة العدالة والمواطنة. لكن الخطر الأكبر أن نسبة مقدرة من سكان البلاد غدوا لا يؤمنون بوجود هوية وطنية مشتركة. إنها بداية تفكك المعنى، لا الجغرافيا فحسب. أحيانا يلقي البعض خُفية بفكرة تقسيم السودان إلى كيانات “متجانسة” ثقافيا واجتماعيا، بدعوى أن التنوع عبءٌ لا ميزة. غير أن هذا الطرح، مهما بدا واقعيا، لا يعدو كونه هروبا إلى الأمام، وإقرارا بالعجز عن إصلاح الدولة. فالوحدة لا تُبنى على الأمنيات، بل على مؤسساتٍ عادلة تحمي الجميع، وجيشٍ وطني لا يميز بين مواطنٍ وآخر. التاريخ الإنساني يفضح وهم “التجانس”. فالهند، بتعدد لغاتها وأديانها، صمدت؛ والولايات المتحدة، بمزيجها المهاجر، قادت العالم. وحتى إثيوبيا، برغم صراعاتها، بقيت موحدة. التنوع لا يصبح نقمة إلا حين تغيب العدالة. فلنسأل بصراحة: ماذا جناه السودان من انفصال الجنوب؟ هل تحقق الاستقرار المنشود؟ أم ازدادت الجراح عمقا؟ لقد كان الانفصال وعدًا زائفًا بالخلاص، فإذا به يفتح أبوابا جديدة للحرب والجوع. التقسيم لا يعالج العنصرية، بل يعيد إنتاجها داخل الحدود الجديدة. الحل لا يكمن في الهروب من الوطن، بل في إصلاح الدولة، ومواجهة النعرات الجهوية والعنصرية صراحة عبر التعليم والثقافة والمؤسسات. يجب أن تتوقف بعض النخب عن الترويج لخطاب التفكيك وكأنه دواء، فالدول لا تُبنى بالمرارات، بل بالمواطنة والمساواة. التحدي الحقيقي ليس في “من يحكم”، بل في كيف نحكم. المطلوب عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين مكونات البلاد، ويجعل العدالة قاعدة لا استثناء. في السودان اليوم، الحرب ليست ضد مليشيا الدعم السريع المتمردة فقذ، بل بين الإنسان وفقدان المعنى. المدنيون هم وقود الصراع، والعدالة ما زالت حبيسة النفاق الدولي. لكن الأمل لن يموت ما دامت هناك قلوب تنبض في العراء، وصحفيون يكتبون بالحبر والدم معا. فالسكوت عن الجرائم مشاركة في صناعتها، والحياد أمام المأساة خيانة للضمير. لا سلام دون عدالة، ولا مستقبل دون ذاكرة. في النهاية، إما أن نكتب تاريخنا بالحق، أو سيكتبه الآخرون بالدم.
|
|