Post: #1
Title: من السياسة إلى البندقية- كيف تحوّلت المليشيات القبلية إلى تهديدٍ وجودي للسودان؟
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 10-12-2025, 03:19 PM
03:19 PM October, 12 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
في قلب الأزمة السودانية، حيث تتلاشى الحدود بين الدولة والقبيلة، والسياسة والسلاح، تبرز ظاهرة المليشيات ذات الطابع القبلي كأخطر ما يهدد السيادة الوطنية واستقرار البلاد. قصة أبو عاقلة كيكل، القائد الميداني المثير للجدل، ليست مجرد حكاية فردية، بل مرآة تعكس انهيار المنظومة الوطنية وتحول الولاءات من الدولة إلى البنى القبلية. هذا المقال يستند إلى شهادات ميدانية ومصادر من داخل مؤسسات الأمن وقوات الدعم السريع، ليسلط الضوء على مخاطر هذه المليشيات، مقدّمًا جرس إنذار لمستقبل السودان.
صعود كيكل- من ظل القبيلة إلى قيادة المليشيا بدأ أبو عاقلة كيكل مسيرته كوسيط قبلي في المناطق الواقعة بين شمال الجزيرة وإقليم كردفان، مستفيدًا من جذوره الممتدة في تلك الرقعة التي تمثل تمازجًا قبليًا معقّدًا بين مكونات الوسط والغرب. لكن طموحه دفعه للانتقال من الساحة الاجتماعية إلى المجال العسكري، حيث برز لاحقًا كقائد لقوات "درع السودان" التي تشكلت من رحم الفوضى عام 2023.
علاقته بـ حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، بدأت وثيقة، لكنها سرعان ما انهارت بعد رفض كيكل تنفيذ أوامر بتطهير قرى شمال الجزيرة، ليعلن تمرده واستقلاله العسكري. هذا الانشقاق لم يكن مجرد نزاع شخصي، بل تجسيدًا لهشاشة التحالفات القائمة على المصالح القبلية التي تفتقر لأي رؤية وطنية جامعة.
قوة كيكل لا تستند إلى أيديولوجيا، بل إلى معادلة ثلاثية- القبيلة كرأسمال سياسي، الجغرافيا كأداة ضغط، والاقتصاد الموازي كمصدر تمويل. هذه المعادلة جعلت منه نموذجًا للمليشيات القبلية التي تستغل فراغ الدولة لتفرض سطوتها، مهددةً وحدة السودان واستقراره.
مخاطر المليشيات القبلية: تفكيك الدولة من الداخل تقويض السيادة الوطنية- من خلال السيطرة على محاور استراتيجية مثل طريق الخرطوم–كردفان ومعبر أبو حمد، تحولت المليشيات إلى “دولٍ موازية” داخل الدولة. هذه السيطرة لا تقتصر على فقدان الدولة لسلطتها، بل تؤدي إلى خلق كيانات شبه مستقلة تتحدى مفهوم السيادة ذاته.
اقتصاد النهب: تعتمد هذه المليشيات على جبايات غير قانونية — مثل فرض ضرائب على المزارعين بنسبة تصل إلى 20% من المحصول، وتهريب الماشية عبر الحدود — لتغذية اقتصادها الموازي. هذا النمط يستنزف موارد الدولة ويعمّق الفقر، مغذيًا دوامة العنف والفوضى.
تفتيت النسيج الاجتماعي: عندما تتحول القبيلة إلى أداة سياسية وعسكرية، تصبح الانقسامات الاجتماعية وقودًا للحرب. شهادات الأهالي من شمال الجزيرة وكردفان، مثل عبد الرحمن وآمنة، تكشف عن "حماية مشروطة" تنقلب إلى استغلالٍ دائم، حيث يدفع المواطن ثمن أمنه من حريته وموارده.
انتهاكات حقوق الإنسان - وثّقت منظمات حقوقية تجاوزات خطيرة لمليشيات كيكل، منها مصادرة المحاصيل، التجنيد القسري، والمحاكمات العرفية. هذه الممارسات تعكس غياب القانون، وتحول المجتمعات المحلية إلى رهائن في يد قادة المليشيات.
التفاهمات المشبوهة - شراكة أم استسلام؟ في محاولة لاحتواء نفوذ كيكل، دخلت المخابرات العامة في مفاوضات سرية معه تحت اسم “عملية الندم” في فبراير 2025. هذه التفاهمات، التي منحت كيكل اعترافًا ضمنيًا مقابل تزويدها بمعلومات استخبارية، تكشف ضعف الدولة واستسلامها أمام قوى السلاح الأهلي. بدلاً من المواجهة، اختارت الدولة التعايش مع الظاهرة، مما عزز شرعية هذه الكيانات غير القانونية وأطال أمد الفوضى.
تصريحات كيكل، التي وصف فيها قواته بأنها "ظل الجيش في الميدان"، تكشف تناقضًا فاضحًا: كيف يمكن لقوة تعمل خارج إطار القانون أن تكون شريكة للدولة؟ إنها ليست شراكة بقدر ما هي هدنة اضطرارية تمهد لتصدعات أكبر.
مستقبل مظلم- سيناريوهات الخراب المسار المستقبلي لهذه المليشيات يحمل ثلاث نهايات محتملة – وجميعها قاتمة: الدمج الرسمي - منح الدولة لهذه المليشيات شرعية قانونية يعني تكريس تفكك المؤسسة العسكرية وتحويلها إلى فسيفساء قبلية. الاستقلال شبه التام: استمرار هذه التشكيلات كقوى موازية سيقود إلى نشوء كيانات على شاكلة "حزب الله السوداني"، تتحدى سلطة الدولة وتفرض واقعها الخاص. التصفية الدموية -تصاعد الصراعات بين المليشيات أو بينها وبين الجيش قد يؤدي إلى تصفيتها، لكن بثمنٍ باهظ من الدماء، ما يغرق البلاد في دوامة عنف جديدة.
كل هذه السيناريوهات تؤكد أن المليشيات القبلية ليست مجرد تهديدٍ أمني، بل أزمة وجودية تضرب فكرة الدولة من جذورها.
استنتاج- استعادة الدولة أو الغرق في الفوضى ظاهرة أبو عاقلة كيكل ليست استثناءً، بل نتاج فراغ سياسي وعسكري أوسع، حيث بات السلاح لغة السياسة، والقبيلة بديلاً عن المؤسسات. كما يقول د. حسن مالك، أستاذ العلوم السياسية: "ظاهرة كيكل تثبت أن السودان يعيش انتقالًا من الدولة إلى ما دون الدولة." هذا التحول الخطير يتطلب مواجهة شاملة، تبدأ باستعادة هيبة الدولة وتفكيك المليشيات عبر استراتيجية تجمع القوة العسكرية والحكمة السياسية والمعالجات الاجتماعية.
*إن استمرار هذه المليشيات يعني استمرار نزيف السودان. وحدها إرادة سياسية حقيقية يمكنها أن تعيد بناء مؤسساتٍ تحمي المواطن بدلاً من أن تتركه رهينة للبنادق. فالسودان اليوم يقف عند مفترق مصيري: إما دولة موحدة تعيد الاعتبار لمفهوم السيادة، أو فوضى قبلية لا تبقي ولا تذر.
|
|