الصرف الدبلوماسي البذخي... إلى أين؟ في ظل معاناة المواطنين غير المسبوقة! كتبه خالد ابواحمد

الصرف الدبلوماسي البذخي... إلى أين؟ في ظل معاناة المواطنين غير المسبوقة! كتبه خالد ابواحمد


10-11-2025, 11:04 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1760220294&rn=0


Post: #1
Title: الصرف الدبلوماسي البذخي... إلى أين؟ في ظل معاناة المواطنين غير المسبوقة! كتبه خالد ابواحمد
Author: خالد ابواحمد
Date: 10-11-2025, 11:04 PM

11:04 PM October, 11 2025

سودانيز اون لاين
خالد ابواحمد -البحرين
مكتبتى
رابط مختصر








أدرك تمامًا أن مقالي هذا قد يُغضب كثيرين ممن قد تتضرر مصالحهم، لكن المسؤولية الوطنية وأمانة الكلمة تُملي عليّ أن أكتب عن هذا الأمر الذي أراه بالغ الأهمية في هذا الوقت العصيب الذي يعاني فيه شعبنا العزيز من ويلات الحرب والمرض والحاجة. فكل العالم يدرك أن بلادنا تمرّ اليوم بأسوأ فترة في تاريخها الحديث؛ حرب طاحنة يقتل فيها المدنيون أكثر مما يُقتل المقاتلون أنفسهم، وأمراض وأوبئة تفتك بالناس، وفيضانات تجرف المدن والقرى، ومعسكرات نزوح تئنّ تحت وطأة الإهمال وتفتقر إلى الحد الأدنى من الرعاية الرسمية والاهتمام الإنساني.

في هذا المشهد القاسي بلغني أن وزارة الخارجية السودانية بصدد تعيين سفير جديد في مملكة البحرين الشقيقة، وفي ظاهر الأمر لا يبدو في هذا القرار ما يثير الاستغراب، فالعلاقات بين السودان والبحرين متميزة جدًا، والشعبان تجمعهما روابط إنسانية وثقافية عميقة تمتزج فيها الدماء والمصاهرات، إذ بيننا في البحرين العديد من الأسر السودانية المختلطة وأبناء وبنات من أمهات بحرينيات وآباء سودانيين والعكس، وعلاقات المحبة والتقدير بين الشعبين راسخة ومشرّفة، غير أن ما يثير الأسف فعلاً هو الصرف المالي غير المبرر في وقتٍ تعيش فيه الدولة مرحلة ضائقة اقتصادية غير مسبوقة، فالعقل والمنطق يفرضان على رأس الدولة أن يقرأ الواقع كما هو لا كما يتمنى، وأن يوجه الموارد الشحيحة إلى ما يحتاجه الناس فعلاً، فالسفارة السودانية في المنامة تقوم بمهامها والعاملون فيها يؤدون واجبهم في خدمة المواطنين والحفاظ على متانة العلاقات الأخوية، وما ينقص الجالية السودانية في البحرين ليس سفيرًا جديدًا بل وجود فريق دائم للجوازات لتيسير المعاملات القنصلية، وهذه مهمة بسيطة يمكن تنفيذها عبر إرسال شخصين فقط مع الأجهزة التقنية اللازمة، ومع كل هذا الواقع الصعب تصر وزارة الخارجية على التوسع في الإنفاق الدبلوماسي البذخي وكأن السودان يعيش في بحبوحة من الموارد.

أرقام لا تبرر الإنفاق

اقتصادنا اليوم يئن من وطأة الحرب والدمار والتضخم وانهيار العملة، فكيف نبرر صرف مبالغ بالآلاف من الدولارات على منصب لا يقدم جديدًا بينما الخدمات الأساسية من مأكل ومأوى وصحة وتعليم تنهار؟ الأرقام الاقتصادية تتحدث بوضوح لا يحتاج إلى تأويل، فحجم التبادل التجاري بين السودان والبحرين عام 2014 لم يتجاوز 11.6 مليون دولار أمريكي أي ما يعادل نحو 4.36 مليون دينار بحريني، والميزان التجاري في مجمله يميل لصالح البحرين، وفي عام 2023 بلغت صادرات البحرين إلى السودان 2.9 مليون دولار فقط، بينما صدّر السودان إلى البحرين نحو 1.16 مليون دولار من منتجات الأعلاف والبذور الزيتية وغيرها، وفق بيانات مواقع دولية موثوقة مثل Trading Economics وOEC، وهي أرقام متواضعة جدًا ولا تبرر تخصيص ميزانية دبلوماسية إضافية في هذا التوقيت العصيب.

مفارقات تكشف غياب الأولويات

وللمقارنة فقط فإن حجم التبادل التجاري بين البحرين وكندا في عام 2024 بلغ أضعاف ذلك، إذ صدّرت كندا إلى البحرين ما قيمته 136 مليون دولار واستوردت منها 63.25 مليون دولار، ووفق بيانات مؤسسة الشؤون الخارجية الكندية، إذ بلغ حجم التجارة الثنائية في عام 2021 نحو 275.8 مليون دولار، ومع ذلك ليست هناك سفارة كندية في المنامة بل سفير واحد في الرياض يغطي جميع دول الخليج، والأمر ذاته مع أستراليا التي بلغ حجم تبادلها التجاري مع البحرين في عام 2023 نحو 1.88 مليار دولار أسترالي أي ما يعادل أكثر من مليار ومئتي مليون دولار أمريكي، على الرغم من أن المسافة بين (المنامة) و(سيدني) تصل إلى أكثر من 12 ألف كيلومتر وتستغرق الرحلة الجوية بينهما نحو 15 ساعة عبر محطات الترانزيت، وبرغم هذا الحجم التجاري الهائل لا توجد سفارة أسترالية في البحرين ولا حتى سفير مقيم.

أما السودان الذي تبعد عاصمته (الخرطوم) عن المنامة مسافة قصيرة لا تتجاوز 1750 كيلومترًا أي ساعتين ونصف من الطيران المباشر فيصر على أن يكون له سُفراء في كل دولة خليجية رغم محدودية المصالح الاقتصادية وضعف العائد التجاري.

إن دولاً كبرى مثل كندا وإسبانيا وأستراليا التي تتعامل مع دول الخليج بمليارات الدولارات سنويًا تكتفي بتمثيل دبلوماسي واحد في المنطقة حفاظًا على المال العام، بينما نحن، ونحن الأشد حاجة للترشيد ننفق على بعثات متكررة لا عائد لها، حتى إن بعض العاملين في السفارات السودانية لم يتسلموا رواتبهم منذ أكثر من أربعة أشهر، مع العلم أن كلفة راتب سفير واحد تكفي لتغطية رواتب ستة موظفين من العاملين بالسفارة نفسها، هذه المفارقة تكشف حجم الخلل في ترتيب الأولويات داخل مؤسسات الدولة، فالدبلوماسية ليست ترفًا ولا مظهرًا بروتوكوليًا للتباهي بل وسيلة لخدمة المصالح الوطنية الحقيقية.

واجب الحكومة في بورتسودان اليوم ليس تعيين مزيد من السُفراء بل إعادة النظر في مجمل سياسات الصرف العام، فالإنفاق في غير موضعه جريمة في حق الوطن الذي ينزف، السودانيون في الخارج لا يحتاجون إلى مزيد من المظاهر الدبلوماسية بل إلى خدمات عملية ملموسة وإلى إدارة تدرك أن الدبلوماسية الفاعلة تُقاس بالنتائج لا بعدد السُفراء، ومن الحكمة أن تُوجَّه الموارد إلى ما يعين الناس على الحياة لا إلى ما يلمّع الصورة في الخارج، فحين يُصرَف المال العام على مناصب لا تضيف قيمة في زمنٍ يفتقر فيه الناس إلى الدواء والغذاء والأمان يصبح الصرف الدبلوماسي البذخي فعلاً غير أخلاقي يتحمل مسؤوليته راس الدولة.

في النهاية يبقى السؤال معلقًا: لمن تعمل الدبلوماسية إن لم تكن في خدمة الشعب؟ فحين تتحول السفارات إلى مظاهر وتغيب عنها الرسالة، يفقد حضور الدولة في الخارج معناه، والمطلوب اليوم إعادة النظر في قرار تعيين سفير جديد في المنامة، وتوجيه هذه الميزانية لتغطية الاحتياجات الأكثر إلحاحًا داخل السفارة وخدمة أبناء الجالية السودانية.

السبت 11 اكتوبر 2025م