الاسفيرى الأَعْمَشِ وَالنَّظَّارَةِ السِّيَاسِيَّةِ!!! كتبه الأمين مصطفى

02:17 PM October, 11 2025

سودانيز اون لاين
الأمين مصطفى-السودان
مكتبتى
رابط مختصر

في زَمانٍ لا يُعْرَفُ فيهِ مَنِ الحاكمُ ومَنِ المحكومُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ فيهِ وجهُ الحَقِّ مِن حَذاءِ الحارسِ، كانَ هُناكَ مُتَصَحِّفٌ أَعْمَشُ، لا يَرَى مِنَ الحُقوقِ إلَّا ما يُذاعُ في النَّشراتِ الرسميَّة، ولا يُبصِرُ مِنَ الحقيقةِ إلَّا ظلَّ الخُوذةِ على الجَبينِ!
هذا المُتَصَحِّفُ، يُعرَفُ في الأَوساطِ الإعلاميَّةِ بلَقَب: "الحَبرجيّ الحُفاريّ"، لِكَونِهِ يَكتُبُ مقالاتِهِ بِأَقدامِهِ، ويَغمسُها في حِبرِ الطِّينِ المُتَساقِطِ مِن جُدرانِ النظامِ عند كُلِّ زَلزَلة.
عَيناهُ تَسكُنانِ في مَوقِعَينِ سياسيَّينِ مختلفَينِ: الأُولى تَحدِّقُ في شاشةِ القناةِ الرسميَّة، والثَّانيةُ تَرقُبُ صَفحاتِ المُعارَضةِ على "فايسبوك"، لكنّهُ يَزعُمُ أنَّهُ "مُحايِدٌ مِهنيٌّ مُستقلّ"، مع أَنَّهُ يُعاني من "متلازمةِ الحَوَلِ السياسيِّ الحادِّ"، وهيَ عِلَّةٌ لا شِفاءَ منها، خاصَّةً إذا تَرافَقَت معَ مَيلٍ غَريزيٍّ لِلرَّكضِ وراءَ الكاميرا.
عِندَ سُقوطِ المخلوعِ، تَحوَّلَ صاحبُنا إلى ثورَجِيٍّ لا يُشَقُّ لهُ غُبارٌ، يَخْطُبُ في الجُموعِ عن الحُرِّيَّةِ، ويَهتُفُ بِأَسْماءِ الشُّهداءِ، ويَلعَنُ كُلَّ من لَم يُغرِّدْ في وُجهةِ الرِّيحِ الجَديدة. وعِندَ المُحاكماتِ، كانَ أوَّلَ مَن صَرخَ: "لا صَفْحَ عَنِ القَتَلَة!"، ثُمَّ تَسلَّلَ فِي المَساءِ لِيُقَبِّلَ أيدي المُتَّهَمينَ في القَصرِ ويَستَجدي إعلانًا.
ثُمَّ، لمَّا حَدَثَ الانقِلابُ وعادَ اللانِظامُ القديمُ فيِ ثَوبٍ أَمنيٍّ أَنيقٍ، نَزَعَ عَن نَفسِهِ ثَوبَ الثَّورَجيَّةِ، وارتَدى بِكُلِّ رَاحةٍ "بِدلَةَ الواقِعيَّةِ السياسيَّةِ"، وصارَ يَكْتُبُ عَن "حِكمَةِ القائِدِ في إنقاذِ الدَّولةِ من الفَوضى"، ويَستَشهِدُ بأَمثالِ ابنِ خَلدون وبِتَغريداتِ المُتَحدِّثِ العَسكريِّ.
هُوَ كالزِّئبَقِ، بل أَدهى… هُوَ ماءٌ في غِربالٍ، لا يُمسَكُ ولا يُرَى، يَتلَوَّنُ بِسُرعةٍ تُربِكُ الأَقمِشةَ النَّاعِمَةَ التي يُفَصِّلُ مِنها مَواقِفَهُ السِّياسيَّةَ.
ويَجِدُهُ المارُّونَ في سوقِ النِّفاقِ، مَوضوعًا في واجِهَةِ العَرضِ، تَحتَ يافِطةٍ كَبيرةٍ تُعلِنُ:

"المُتَصَحِّفُ الأَعْمَشُ – بِخَمسَةِ وُجوهٍ في مَقالٍ واحِد! خَفِيفُ الظِّلِّ، سَريعُ التَّلَوُّنِ، لِأَدْنَى سِعر!"

وَيَتهامَسُ المُشتَرونَ:
– "كَم تَطلُبُ فِيهِ؟"
فيَردُّ البائِعُ:
– "خُذْهُ مَجانًا… بَسّ خَلِّيه يَمدَحنا في المَقال الجّاي!"