Post: #1
Title: العنصرية في الهواء الطلق... حين يتحول النقاش إلى مستنقع أخلاقي كتبه الطيب محمد جادة
Author: الطيب محمد جاده
Date: 10-11-2025, 03:58 AM
03:58 AM October, 10 2025 سودانيز اون لاين الطيب محمد جاده-السودان مكتبتى رابط مختصر
صحفي مستقل
في السنوات الأخيرة، شهدت منصات التواصل الاجتماعي في السودان انفجاراً في النقاشات السياسية والاجتماعية، ترافق مع انفتاح غير مسبوق في حرية التعبير. غير أن هذا الانفتاح، الذي كان يُفترض أن يكون مساحة للحوار البنّاء وتبادل الآراء، تحوّل في كثير من الأحيان إلى ساحة للتجريح، وبحراً من الشتائم التي تمسّ الأعراض، وتُغذي الكراهية على أساس العِرق أو الجهة أو الانتماء السياسي.
ما إن تفتح تطبيق “فيسبوك” أو “إكس” (تويتر سابقاً) أو تيك توك حتى تُفاجأ بكمٍّ هائل من التعليقات المشحونة بالحقد. كلمات نابية، اتهامات بلا دليل، وسخرية تتجاوز حدود النقد المشروع. هذا ليس مجرد انفعال لحظي، بل ظاهرة متجذّرة تُنذر بانحدار أخلاقي خطير يهدد نسيج المجتمع السوداني المتنوع.
المؤلم في الأمر أن كثيراً من هؤلاء الذين يطلقون هذه العبارات العنصرية أو الشتائم الفاضحة، يقدّمون أنفسهم بوصفهم “نشطاء” أو “مدافعين عن الحرية والكرامة”. لكن ما جدوى النضال إذا كان يُبنى على إهانة الآخرين؟ وما معنى الحرية إن كانت تتحول إلى فوضى لفظية تُفرغ القيم من مضمونها؟
إنّ الناشط الحقيقي لا يشتم، ولا يُهين، ولا يستسهل الطعن في الأعراض. بل هو من يعلو بخطابه على الغرائز ويصون إنسانيته وإنسانية خصومه.
تاريخياً، عُرف السودانيون بالتسامح واحترام التنوع. فبلادنا التي تضم عشرات القبائل والإثنيات عاشت قروناً في وئام، يجمعها الدين والوجدان المشترك والمروءة. لكن منصات التواصل الاجتماعي، التي كسرت الحواجز الجغرافية، كشفت أيضاً عن وجه آخر: جيل غاضب، متعب، فقد الثقة في الدولة والمجتمع، فصبّ إحباطه في شكل سبٍّ وشتمٍ وازدراءٍ للآخرين.
هؤلاء لا يمثلون المجتمع، بل يمثلون انهيار المنظومة القيمية التي كانت تضبط سلوك الأفراد في الفضاء العام.
الخطورة لا تكمن فقط في الألفاظ، بل في ما وراءها من أفكار. فحين يُهاجم شخص ما آخر بسبب لونه أو أصله أو قبيلته، فإن ذلك يعيد إنتاج عقلية الإقصاء التي دمّرت السودان لعقود. لقد خضنا حروباً طويلة بسبب هذه الذهنية، وها نحن نعيد تدويرها في شكل منشورات وتغريدات، تغذي الانقسام وتُضعف فرص التعايش.
ولا يمكن تحميل المسؤولية للأفراد وحدهم. فالإعلام، والمؤسسات التعليمية، وحتى بعض النخب الثقافية، أسهمت بصمتها أو تهاونها في انتشار هذا الخطاب. غابت التربية الإعلامية، وانعدمت الرقابة الأخلاقية، وساد مناخ يرى في الشتيمة “بطولة”، وفي الإساءة “شجاعة رأي”.
إنها مأساة مجتمع يعاني من الفوضى القيمية، حيث تتبدّل المعايير وتضيع الحدود بين الحرية والانحطاط.
لكن، ورغم هذا الواقع المؤلم، ما زال هناك أمل. فما زالت هناك أصوات عاقلة تدعو إلى تهذيب الخطاب العام، وتنشر ثقافة الاحترام، وتذكّر بأن النقد يمكن أن يكون حاداً من دون أن يكون بذيئاً، وأن الاختلاف لا يعني العداء.
المعركة اليوم ليست بين تيارات سياسية، بل بين أخلاق وانفلات، بين وعي وجهل، بين من يريد بناء السودان ومن يساهم في هدمه بالكلمات.
على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في سنّ قوانين صارمة تجرّم خطاب الكراهية والتحريض على العنف، وعلى المجتمع أن يستعيد دوره في التربية على التسامح والاحترام. كما يجب على المستخدمين أنفسهم أن يدركوا أن الكلمة قد تقتل، وأن التغريدة قد تشعل فتنة.
في نهاية المطاف، الخطاب العنصري والسباب لا يصدر إلا عن نفس مريضة أو وعيٍ ساقط.
ومن يظن أنه يعبّر عن رأي أو نضال من خلال الشتائم، فهو لا يُعبّر إلا عن فراغه الداخلي وانحداره الأخلاقي.
أما النشطاء الحقيقيون، فهم أولئك الذين يواجهون الكراهية بالكلمة الطيبة، ويقودون التغيير بالعقل لا بالانفعال.
فليكن شعارنا إذن:
اختلافنا لا يبرر إساءتنا، ووحدتنا لا تقوم على الصمت عن الباطل، بل على أخلاق تحترم الإنسان مهما اختلفنا معه.
|
|