Post: #1
Title: السفاهة الرسمية- حين يفقد المنصب وعيه وتفقد الدولة جديتها
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 10-10-2025, 05:47 PM
05:47 PM October, 10 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
في مشهدٍ استثنائي بثّته شاشات الأخبار، وقف رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس خلال زيارته الرسمية إلى أسمرة، منفردًا يهتف بحياة الرئيس الإريتري، في لحظةٍ عبّرت عن أكثر من مجرد زلة بروتوكولية. المشهد لم يكن عابرًا، بل كشف عن انفصالٍ صارخ بين رمزية المنصب ومسؤولية الكلمة، مثيرًا تساؤلاتٍ جوهرية حول ثقافة الممارسة السياسية وأزمة الوعي المؤسسي. نحن هنا إزاء ظاهرة تستحق التقصّي لا الهجوم؛ ظاهرة "السلوك الرسمي غير المتناسب" التي تتحول أحيانًا إلى سمة مميزة لبعض النخب الحاكمة، فتبدو الدولة وكأنها تؤدي أدوارها أمام الجمهور لا من أجل التاريخ، فتغدو السلطة عرضًا مستمرًا بلا مضمون. الانفصال عن الواقع ما حدث في أسمرة ليس مجرد خطأ بروتوكولي، بل عرضٌ لمرضٍ أعمق: الانفصال بين شعارات السلطة وسلوكياتها. حين يتحول المسؤول إلى "مشجع" في محفلٍ دبلوماسي، فإن الرسالة التي تصل إلى الجمهور أن الدولة فقدت اتزانها الرمزي، وأن العقل الذي يفترض أن يمثلها غاب في لحظة استعراضية. ففي اللحظة التي يتحول فيها صانع القرار إلى متفرجٍ على ذاته، تُعلن الدولة إفلاسها الرمزي. فالهتاف ليس مشكلة بحد ذاته، بل أن يصدر من منبر يُفترض أنه عقل الدولة ولسانها. من التاريخ إلى الواقع التاريخ يخبرنا أن السقوط يبدأ دائمًا حين تختلط الرموز بالأدوار. فالحاكم الروماني نيرون لم يحرق روما بين عشيةٍ وضحاها، بل سبقت ذلك تراكمات من السلوكيات الاستعراضية التي جعلت من الدولة ساحة للعروض المسرحية. نيرون القديم كان يستعرض سلطته بالنار والموسيقى، أما نيرون المعاصر فيفعلها بالتصريحات والكاميرات. كلاهما وجهان لسفاهة واحدة بأدوات مختلفة. اليوم، حلت الأضواء مكان الصولجان، وبقي المرض نفسه: الرغبة في الظهور أكثر من الرغبة في الفعل. علم نفس السلوك الرسمي الظاهرة تستدعي النظر في العقلية التي تنتج هذا السلوك. فالمسؤول الذي يقدم عروضًا استعراضية يعاني غالبًا من انفصالٍ بين شخصيته ومنصبه. الكاميرا بالنسبة له ليست أداة توثيق، بل منصة لعرض الذات. إنها حالة من التمثيل السياسي الدائم، حيث تتبدل الأدوار وتبقى الصورة هي الجوهر. وهكذا تتورط الدولة في أزمة تمثيل مزدوج: مسؤول يمثل على الشعب، وشعب يمثل أنه يصدق المسؤول. تأثير الدومينو الخطورة الحقيقية لا تكمن في المشهد ذاته، بل في انتشار الثقافة التي تنتجه. حين يرى الموظف الصغير هذا النموذج من القيادة، يصبح التقليد سلوكًا عامًا. فتتحول الإدارة من مؤسسة منتجة إلى مسرح للاستعراض، وتصبح اللغة الرسمية مجرد شعارات جوفاء. وحين تترسخ ثقافة الاستعراض في القمة، يصبح الانحدار سلوكًا مؤسسيًا، وتتحول الدولة من عقلٍ منظم إلى قاعة مرايا تعكس غرور المسؤولين. طريق العودة إلى الجدية العلاج لا يكون بالهجوم على الأفراد، بل بإعادة بناء الثقافة المؤسسية. المنصب يجب أن يُفهم على أنه أمانة فكرية لا امتياز شخصي. المساءلة والمحاسبة هما الضمانتان ضد تحوّل الدولة إلى ساحة للعروض، لأن احترام المنصب لا يتحقق بالهيبة الشكلية بل باللياقة الفكرية والاتزان السلوكي. ينبغي أن يدرك المسؤولون أن الكلمة في المحافل الدولية لا تمثل شخصهم بل وطنهم، وأن كل حركة أو انفعال يُترجم في وعي الشعوب على أنه مؤشر على نضج الدولة أو غيابها.
*ما جرى في أسمرة ليس تفصيلاً عابرًا في بروتوكولٍ رسمي، بل مرآة تعكس عمق الأزمة في الوعي السياسي العربي. فالمسؤول الذي يهتف حيث ينبغي أن يتكلم، يعبّر عن دولةٍ تهتف حيث ينبغي أن تفكر. إن احترام المنصب يبدأ باحترام المعنى، واحترام الوطن يبدأ بجدية من يتحدث باسمه. وبين مشهدٍ عابر وعدوىٍ مؤسسية، تتحدد مصائر الأمم التي إما أن تُدار بالعقل... أو تُعرَض على الشاشات كفواصل بين برامج العبث.
|
|