نهاية التأريخ العقدي أم تحيّز المركز؟ قراءة سودانية في جدل العقيدة والهوية#

نهاية التأريخ العقدي أم تحيّز المركز؟ قراءة سودانية في جدل العقيدة والهوية#


10-10-2025, 11:02 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1760090533&rn=0


Post: #1
Title: نهاية التأريخ العقدي أم تحيّز المركز؟ قراءة سودانية في جدل العقيدة والهوية#
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 10-10-2025, 11:02 AM

11:02 AM October, 10 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





السودان كـ"مختبر" لعلم الكلام الحي
عندما يطرح عبد الله الغزي سؤال "نهاية التأريخ العقدي"، فهو يفترض وجود خط زمني واحد ومستقيم للجدل الكلامي.
لكن السودان، بوصفه "أرخبيلًا" من الهويات والتدينيات، لا ينتمي إلى هذا الخط المستقيم.
إنه يشكل "نسيجًا عقديًا" معقدًا، حيث تذوب الحدود بين المذهب والعرف، وبين النص والممارسة الاجتماعية.
من هذا المنظور، لا ينتهي التاريخ العقدي، بل "ينتشِر" ويتشظى في جسد المجتمع، ليتحول من جدل النخبة في قاعات الدرس إلى تفاوض يومي على المعنى في الساحات العامة والأضرحة والأسواق.
السؤال الحقيقي ليس "هل انتهى التاريخ العقدي؟" بل "كيف تحوّل وشكّل هوية مجتمع متعدد الأصول؟".
المحور الأول- تشريح الجينات العقدية للسودان من باب الصوفي والسلفي والمدني
لا يمكن فهم المشهد العقدي في السودان بمنطق "المذاهب التقليدية" فحسب، بل بمنطق "التدين الشعبي" و"الاقتصاد الرمزي" للعقيدة.

التصوف كـ"لاهوت ارتضائي" وليس "لاهوت جدلي" لم يكن التصوف السوداني مجرد طرق للذكر، بل كان آلية حكم وتنظيم اجتماعي.
لقد قدم ما يمكن تسميته "عقيدة التساكن". العقيدة هنا ليست مجموعة من propositions يُجادل حولها، بل هي "رأس مال رمزي" يضمن الاستقرار.
الولي الصوفي، بكراماته وشبكة مريديه، كان أكثر فاعلية من "المتكلم" في ترسيم حدود الجماعة وشرعنتها. هذه "العقدية العملية" هي التي جعلت من الممكن لمسلم و"منبت" تقليدي أن يتقاسما نفس الفضاء دون حرب عقائدية
لأن العقيدة كانت مرتبطة بـ"البركة" و"الحماية" أكثر من ارتباطها بـ"الصحة" و"الضلال".
السلفية كـ"صدمة المركزية" وردّة الفعل على الهامش عندما دخلت السلفية إلى السودان، لم تكن دخولًا فكريًا محضًا. لقد كانت إعادة تعريف للهوية من خلال "تطهير" الانتماء. حملت السلفية خطابًا مزدوجًا:

تطهير الذات من "الشوائب" المحلية: بتفكيك سلطة الولي والصوفية، وهي سلطة محلية الطابع.

الالتحاق بـ"أمة مركزية" افتراضية وهذا عبر الانتماء إلى نموذج "السلف الصالح" المتعالي على الجغرافيا والتاريخ.
بذلك، لم تكن السلفية مجرد خيار مذهبي، بل كانت خيارًا هوياتيًا وسياسيًا، يحاول تجاوز "الهامشية" السودانية بالالتحاق بمركزية إسلامية متخيَّلة. هذا يفسر تحولها السريع إلى قوة سياسية (حزب الأمة، ثم الإسلامويون)، لأنها قدمت وعودًا بـ"هوية نقية" في مواجهة هوية هجينة ومتعددة.

الطبقة المدنية والليبرالية هي حقيقة البحث عن "عقدية مدنية" مع تشكل الدولة الوطنية، ظهر تيار ثالث حاول فصل الهوية الوطنية عن الإنتمائين الصوفي والسلفي. هذا التيار، الممثل في جزء من النخبة المثقفة، سعى إلى "عقيدة المواطنة"، حيث يكون الرابط الاجتماعي هو العقد المدني، لا الانتماء الطرقي أو المذهبي. لكن هذا المشروع اصطدم بـ"سماكة" التدين الشعبي وقوة المشروع الإسلاموي، مما جعله يبدو منعزلاً عن جسد المجتمع.
المحور الثاني- المفكرون السودانيون من تفكيك المركزية ولإعادة بناء "علم الكلام من الهامش"
قراءة المفكرين السودانيين ليست مجرد إضافة إلى النقاش، بل هي نموذج منهجي مختلف.

محمود محمد طه- من علم الكلام النصي إلى "لاهوت التحرر"- لم يقدم طه مجرد تأويل جديد، بل قلَب المنهج رأسًا على عقب. إذا كان الجدل العقدي التقليدي يدور حول "نص من الماضي كيف يفهم في الحاضر"، فقدّم طه "لاهوتًا تقدميًا"
يقوم على سؤال: "كيف نستخرج من النص إمكانات تحررية للمستقبل؟". بتحليله للرسالة الثانية، حوّل العقيدة من سجال حول الألوهية والصفات إلى مشروع للتحرر الإنساني من الاستبداد الديني والسياسي. لقد استبدل "علم الكلام الدفاعي" بـ"علم الكلام التحرري".

محمد أبو القاسم حاج حند "المركزية القرآنية" كبديل عن المركزية المذهبية , ومشروع حاج حند هو محاولة جذرية لتجاوز كل المراكز التفسيرية الموروثة (سلفية كانت أم كلامية) والعودة إلى القرآن كمحور وحيد.
لكن هذه العودة ليست سلفية، بل هي "قراءة منهجية كلية" تدمج المعرفة الدينية بالمعرفة العلمية الحديثة.
هو لا يرفض المركزية فحسب، بل يبني مركزية جديدة من الهامش، مركزية القرآن المُطلق فوق كل القراءات البشرية الجزئية والمتحيزة.

عبد الله علي إبراهيم تفكيك "اقتصاد العقيدة": يأتي دور إبراهيم كـ"مؤرخ ثقافي" يحلل العقيدة لا كمجموعة أفكار مجردة، بل كـممارسة مادية ورمزية. هو يطرح سؤالًا جوهريًا- من يملك الحق في تفسير العقيدة؟
ولماذا؟ بتحليله لصراع "العلماء" مع "القراء" (حفظة القرآن) في تاريخ السودان، يكشف كيف أن "السلطة العقدية" كانت جزءًا من صراع على رأس المال الرمزي والاجتماعي.
الجدل العقدي، في هذه القراءة، ليس بحثًا مجردًا عن الحقيقة، بل هو صراع على شرطة تعريف "المقدس" في المجتمع.

المحور الثالث التحيز المذهبي أم تحيزات مابعد كولونيالية؟
القراءة السودانية تكشف أن "التحيز المذهبي" للغزي هو سطح لمشكلة أعمق
التحيز الجغرافي-الثقافي إن فكرة "المركز" (الحجاز، مصر، المشرق) مقابل "الهامش" (السودان، أفريقيا) هي التي تشكل النقاش. كثير من الجدل العقدي في السودان هو صورة لصراع مراكز قوى خارجية
(الوهابية، الأزهر، الطرق الصوفية الكبرى) تجد في السودان ساحة لتمددها.

التحيز العرقي-القبلي غالبًا ما يتماهى الانتماء المذهبي مع الانتماء القبلي أو الإقليمي. السلفية قد ترتبط ببعض القبائل "العربية"، بينما يظل التصوف قويًا في مناطق أخرى، مما يعطي الجدل العقدي طابعًا هوياتيًا دفاعيًا.

عقيدة الدولة الحديثة مع تشكل الدولة الوطنية، أصبحت العقيدة أداة للحكم. نظام الإنقاذ حوّل "المشروع الحضاري" (الذي هو في جوهره عقدي-سياسي) إلى عقيدة دولة، مستبدلاً تعددية التدين الشعبي بمركزية واحدة
وهو ما يثبت أن "نهاية التاريخ العقدي" قد تعني ببساطة انتصار مركزية واحدة بالقوة، وليس حسم الجدل بالحجة.

نحو "لاهوت سوداني التخوم"
الدرس السوداني الأساسي هو أن "العقيدة حياة قبل أن تكون نصًا". إنها تتشكل في حلقات الذكر، في ساحات الحرب والسلام، في تفاوض القبائل على الموارد، وفي مقاومة الاستعمار.

بدلاً من السؤال عن "نهاية التاريخ العقدي"، يمكن للسودان أن يقدم سؤالًا أكثر إنتاجية: كيف نصنع "لاهوت تخوم" (Borderland Theology)؟ أي لاهوت يعترف بتعددية جذوره (إفريقية، عربية، إسلامية، محلية)
ولا يحاول اختزالها إلى مركز واحد؟ لاهوت لا ينكر الجدل، بل يحوّله من صراع على السلطة إلى محادثة حول المعنى المشترك.

فوز الغزي أو عدمه في جدله ليس هو المهم من المنظور السوداني.
المهم أن السودان، بتجربته الأليمة والغنية، يذكرنا بأن العقيدة عندما تنغلق على نفسها في قوالب مذهبية، تتحول إلى وقود للصراع.
وعندما تنفتح على واقع الناس وألمهم وأملهم، تتحول إلى قوة للتسامح والخلق.
التاريخ العقدي لم ينتهِ، بل هو يعيد كتابة نفسه، بلغات متعددة، على أرض الواقع السودانية كل يوم.