السودان وطنٌ محاصر بين الاستحالات تأملاتٌ في مرآة الألم والرجاء كتبه احمد التيجاني سيد احمد

السودان وطنٌ محاصر بين الاستحالات تأملاتٌ في مرآة الألم والرجاء كتبه احمد التيجاني سيد احمد


10-09-2025, 07:55 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1760036137&rn=0


Post: #1
Title: السودان وطنٌ محاصر بين الاستحالات تأملاتٌ في مرآة الألم والرجاء كتبه احمد التيجاني سيد احمد
Author: احمد التيجاني سيد احمد
Date: 10-09-2025, 07:55 PM

07:55 PM October, 09 2025

سودانيز اون لاين
احمد التيجاني سيد احمد-ايطاليا
مكتبتى
رابط مختصر




السودان وطنٌ محاصر بين الاستحالات
تأملاتٌ في مرآة الألم والرجاء

*(من مرآة الذات إلى مشروع التأسيس)*

د. احمد التبجاني سيد احمد

كان المشهد كأن الوطن كله انعكس في مرآةٍ مائلة، تجمع الضوء والظل في آنٍ واحد. تطفو في ذهني أصواتٌ متقاطعة — بعضها من وجع الأرض، وبعضها من برد الذاكرة. صوت القانون يطالب بالعدالة، وصوت الميدان يصرخ من قلب الرماد: الخلاص لا يُستورد، بل يُنتزع من بين الركام.

كنت أرى السودان كما لو كان كائنًا حائرًا بين الحياة والموت، تتوزّعه أيادي الطامعين، ويتقاذفه أبناؤه بين التوبة والجنون. أتأمل، وأسمع في داخلي همسًا لا أعرف مصدره: الجرائم تُرتكب كل يوم، والمدن تُحاصر، والقرى تُهدم، والناس يموتون عطشًا وجوعًا… ثم يخرج من يقول: نحن نبني السلام. أيّ سلامٍ هذا الذي يُبنى على ركام العدالة؟

أغلق عينيّ، فأرى الوجوه التي سقطت في النسيان، وأجيب نفسي كمن يبرر للبقاء معنى: نعم، هناك من أخطأ، ومن تجاوز، ومن ظنّ أن البندقية طريقٌ للدولة. لكن وسط الخراب، ما زال هناك من يحاول أن يصنع بدايةً جديدة. لسنا بلا عيوب، لكننا نحمل إرث أجيالٍ عجزت عن الحكم بالعدل والرحمة.

يتردّد في رأسي السؤال الحاد كحدّ السيف: ألن نصبح نحن أيضًا نسخةً من الذين أسقطناهم؟ سلاحٌ ومالٌ وسلطة… بلا مشروعٍ إنساني؟ أتمتم في صمتٍ واثقٍ ومرتبكٍ في آنٍ واحد: نخشى ذلك كل يوم. لذلك نسمي ما نقوم به تأسيسًا لا حكمًا. لسنا طلاب سلطة، بل طلاب بدايةٍ لوطنٍ بلا سيّد. نحاول أن نبني ضميرًا سياسيًا جديدًا، يخطئ ويتعلّم، لا يتقدّس ولا يُؤلَّه أحدٌ فيه.

تمتد الأفكار كأنها أمواجٌ متلاحقة: نريد للسودان أن يقف على قدميه، لا أن يُدار بوصايةٍ، نريد حماية المدنيين، لا احتلال القرار الوطني. فالوطن لا يُنقذ إلا حين يتحمّل أبناؤه مسؤولية خلاصه.

ويهمس صوتٌ آخر من أعماق الرجاء: القانون وحده لا يكفي، والعدالة بلا أمانٍ تظل حلمًا معلّقًا. من يزرع الأمان في أرضٍ صار فيها الخوف خبزًا يوميًا؟ وأرى في خيالي وجوه الذين بقوا أحياء رغم كل شيء — من يكتب، من يزرع، من يداوي، من يرفض الكذب. هؤلاء هم الجيش الحقيقي، جيش الحياة.

يسكنني الصمت لحظةً طويلة، ثم يخرج السؤال من داخلي كنداءٍ من بعيد: هل ما زال في السودان متسعٌ للحلم؟ وأسمعني أجيب: ما دام فينا من يتجادل بالصدق لا بالخداع، فالسودان لم يمت. لقد تأخر فقط عن موعده مع العدالة.

ثم يحدث أن يتكلم الوطن نفسه، لا كرمزٍ بل كوعيٍ متجسد: «أنا السودان — لستُ أرضًا فقط، بل امتحانٌ للضمير الإنساني. وُلدتُ من صراعٍ بين الماء والرمل، وبين العقل والعقيدة، وبين الشجاعة والخوف. تعبتُ من القتلة الذين يرفعون رايتي، ومن الحالمين الذين يخافون السير في طريقي. لكنني ما زلتُ هنا، بين رمادٍ لم يبرد وسماءٍ لم تُطفئ نجومها بعد. الاستحالة ليست قدري، بل درسي القديم منذ الاستقلال. كلما سقطتُ، نهضتُ بأسماءٍ جديدة وقلوبٍ جديدة، ووجوهٍ لا تخاف النور. لا أطلب المستحيل، بل أن تصدّقوا أن قيامتي ممكنة — إن أنصتّم إليّ، لا إلى صدى البنادق ولا إلى وعود الكاذبين.»

ينطفئ الصدى، وتبقى الجملة الأخيرة معلّقة كنبضٍ لا يهدأ: هل نكتب تاريخنا هذه المرة بأيدينا، ونصالح أرضنا قبل أن تصالحنا؟

في لحظةٍ كهذه، ووسط الرماد، تولد الفكرة: تحالف تأسيس السودان (تأسيس). ليس حزبًا ولا طائفة، بل نداءٌ وطني لإعادة كتابة العقد من جديد — لا بالسلاح، بل بالوعي والإرادة. تحالفٌ يضمّ قوى مدنية ومجتمعية وأكاديمية من كل الأقاليم، آمنوا بأن الدولة لا تُبنى على الغلبة والميراث، بل على العدل والمواطنة، وعلى وعيٍ جديدٍ يعترف بالأخطاء، ويكسر عقل الصفوة القديمة منذ ١٩٥٦، ذلك العقل الذي احتكر السلطة والثروة وأدخل البلاد في دوامة الحروب.

ومن بين رماد الحرب، برز محمد حمدان دقلو (حميدتي)، رمزٌ للتحول الإشكالي، لكنه أيضًا شاهدٌ على التحول الممكن. فقد أدرك، بعد التجربة والدم، أن السلاح وحده لا يصنع وطنًا، وأن من أراد أن يبقى في ذاكرة الشعب عليه أن يملك شجاعة الاعتذار والتعلّم. ومن هنا جاء انحيازه إلى مشروع التأسيس — كمراجعةٍ فكريةٍ وسياسية، لا بحثًا عن سلطة، بل كمن يضع البندقية جانبًا ليتعلم كيف تُبنى الدولة من جديد.

يرى تحالف التأسيس في هذه اللحظة فرصةً لإعادة تعريف السودان: أن يتحول الميدان إلى مدرسةٍ للمدنية، وأن تتحول القوة إلى أداةٍ للعدل لا وسيلةٍ للهيمنة، وأن يكون الإنسان هو مركز المشروع لا ضحيته.

فالمعركة اليوم ليست بين جيشٍ وجيش، بل بين فكرٍ قديمٍ مات مع الكيزان والانقلابات، وفكرٍ جديدٍ يحاول أن يولد رغم الجراح — فكرٍ يؤمن أن السودان لا يُرمم إلا بالصدق، ولا يُستعاد إلا بالاعتراف، ولا يُبنى إلا بالتأسيس.

السودان… وطنٌ محاصر بين الاستحالات، لكنه ما زال يبحث عن ضوءٍ في آخر النفق.




د. أحمد التيجاني سيد أحمد
قيادي ومؤسس في تحالف تأسيس
٩ أكتوبر ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا