Post: #1
Title: السودان: وطنٌ محاصر بين الاستحالات *(من مرآة الألم إلى مشروع التأسيس)* كتبه د احمد التيجاني سيد احم
Author: احمد التيجاني سيد احمد
Date: 10-09-2025, 02:42 AM
02:42 AM October, 08 2025 سودانيز اون لاين احمد التيجاني سيد احمد-ايطاليا مكتبتى رابط مختصر
كان اللقاء أشبه بمرآةٍ لسودانٍ منقسمٍ بين الأمل واليأس. هي أشبه بمرآةٍ لسودانٍ منقسمٍ بين الأمل واليأس. هي (قانونية دوليةً رفيعة من اصل سوداني) تتحدث بلسان القانون والعدالة، وترى في التدخل الدولي خلاصًا مؤقتًا لوطنٍ نزف أكثر مما يحتمل. وهو يتحدث بلسان الأرض والميدان، يرى أن الخلاص لا يُستورد بل يُنتزع من بين الركام. بين القانون والواقع، بين الخارج والداخل، كان الحوار رحلةً في قلب المأزق السوداني.
قالت بصوتٍ كأنما يخرج من عمق الذاكرة: «الجرائم تُرتكب كل يوم، والمدن تُحاصر، والقرى تُهدم، والناس يموتون عطشًا وجوعًا. ثم يأتي من يقول: نحن نبني السلام. أيّ سلامٍ هذا الذي يُبنى على ركام العدالة؟»
فأجابها الطرف الآخر، وكأنه يُمسك بجمر الحقيقة بيديه: «نعم، هناك من أخطأ، ومن تجاوز، ومن ظنّ أن البندقية طريقٌ للدولة. لكن وسط الخراب، هناك من يحاول أن يصنع بدايةً جديدة. لسنا بلا عيوب، لكننا نحمل إرث أجيالٍ عجزت عن الحكم بالعدل والرحمة.»
توقفت لحظة، ثم قالت: «ألا تخشون أن تتحوّلوا أنتم إلى نسخةٍ جديدةٍ من الذين أسقطتموهم؟ سلاحٌ ومالٌ وسلطة، لكنها بلا مشروع إنساني؟»
فأجابها: «نخشى ذلك كل يوم. لذلك نسمي ما نقوم به تأسيسًا لا حُكمًا. نحن لا نبحث عن سلطةٍ، بل عن بدايةٍ لوطنٍ بلا سيّد. نحاول أن نبني ضميرًا سياسيًا جديدًا، يخطئ ويتعلم، لا يتقدّس ولا يُؤله أحدًا.»
وتابع يقول: «نريد للسودان أن يقف على قدميه، لا أن يُدار بوصايةٍ أو يُساق من الخارج. نحتاج إلى تدخلٍ دولي محدود لحماية المدنيين، لا لاحتلال القرار الوطني. فالوطن لا يُنقذ إلا حين يتحمل أبناؤه مسؤولية خلاصه.»
قالت وهي تتأمل البعيد بعينين يثقلهما الحزن: «القانون وحده لا يكفي، والعدالة بلا أمان تصبح حلماً معلقًا. من يزرع الأمان في أرضٍ صار فيها الخوف خبزًا يوميًا؟»
فأجاب: «من بقي حيًّا رغم اليأس. من يكتب ومن يزرع ومن يداوي ومن يرفض الكذب. هؤلاء هم جيشنا الحقيقي. أما الذين يتقاتلون باسم الدين أو الثورة أو القبيلة، فهم غرباء عن معنى الوطن.»
ساد الصمت، ثم ارتفع سؤالها الأخير كأنه رجع صدى لكل الحروب: «هل ما زال في السودان متسعٌ للحلم؟»
وجاء الجواب بصوتٍ واهنٍ لكنه واثق: «ما دام فينا من يتجادل بالصدق لا بالخداع، فالسودان لم يمت. لقد تأخر فقط عن موعده مع العدالة.»
وفي ختام ذلك الحوار، بدا كأن الوطن نفسه هو الذي يتحدث من وراء الصمت: «أنا السودان، لستُ أرضًا فقط، بل امتحانٌ للضمير الإنساني. وُلدتُ من صراعٍ بين الماء والرمل، وبين العقل والعقيدة، وبين الشجاعة والخوف. تعبتُ من القتلة الذين يرفعون رايتي، ومن الحالمين الذين يخشون السير في طريقي. لكنني ما زلتُ هنا، بين رمادٍ لم يبرد وسماءٍ لم تُطفئ نجومها بعد. الاستحالة ليست قدري، بل درسي القديم منذ الاستقلال. كلما سقطتُ، نهضتُ بأسماءٍ جديدة وقلوبٍ جديدة، ووجوهٍ لا تخاف النور. لا أطلب المستحيل، بل أن تصدّقوا أن قيامتي ممكنة — إن أنصتّم إليّ، لا إلى صدى البنادق ولا إلى وعود الكاذبين.»
ثم تلاشى الصدى، وبقي السؤال معلقًا: هل يستطيع السودانيون أن يكتبوا تاريخهم بأيديهم هذه المرة، ويصالحوا أرضهم قبل أن تصالحهم؟
في قلب هذا الوجع، ووسط الرماد، وُلد مشروع تحالف تأسيس السودان (تاسيس)، كمحاولةٍ جريئةٍ لإعادة كتابة العقد الوطني من جديد — لا بالسلاح، بل بالإرادة والوعي. تاسيس ليس حزبًا ولا طائفة، بل تحالفٌ وطنيٌ واسع يضمّ قوى مدنية ومجتمعية وأكاديمية من مختلف الأقاليم، اجتمعوا على فكرةٍ بسيطةٍ ومصيرية: أن تُبنى الدولة من الصفر، على العدل والمواطنة، لا على الغلبة والميراث.
يؤمن هذا التحالف أن الدولة المدنية لن تُهدى من الخارج، ولا تُفرض بالانقلابات، بل تُنتَج من وعيٍ جديدٍ يعترف بالأخطاء ويكسر عقل الصفوة القديمة منذ ١٩٥٦، ذلك العقل الذي احتكر السلطة والثروة، وأقصى الهامش، وأدخل البلاد في دوامة الحروب.
ومن بين مآسي الحرب، ظهر محمد حمدان دقلو (حميدتي) بوصفه أحد أكثر رموز التحوّل إشكالًا وتعقيدًا. فقد أدرك، بعد التجربة والدم، أن السلاح وحده لا يصنع وطنًا، وأن من أراد أن يبقى في ذاكرة الشعب لا بد أن يملك شجاعة الاعتذار والتعلم. ومن هنا جاء انحيازه المعلن إلى مشروع التأسيس — كمراجعةٍ فكريةٍ وسياسيةٍ، لا بحثًا عن سلطة، بل كمن يضع البندقية جانبًا ليتعلّم كيف تُبنى الدولة من جديد.
تحالف التأسيس ينظر إلى هذه اللحظة بوصفها فرصة نادرة لإعادة تعريف السودان: أن يتحول الميدان إلى مدرسةٍ للمدنية، وأن تتحول القوة إلى أداةٍ للعدل لا وسيلةٍ للهيمنة، وأن يكون الإنسان هو مركز المشروع لا ضحيته.
فالمعركة اليوم لم تعد بين جيشٍ وجيش، بل بين فكرٍ قديمٍ مات مع الكيزان والانقلابات، وفكرٍ جديدٍ يحاول أن يولد رغم الجراح — فكرٍ يؤمن أن السودان لا يُعاد ترميمه إلا بالصدق، ولا يُستعاد مجده إلا بالاعتراف، ولا يُبنى مستقبله إلا بالتأسيس.
السودان: وطنٌ محاصر بين الاستحالات، لكنه ما زال يبحث عن ضوءٍ في آخر النفق.
⸻
د. أحمد التيجاني سيد أحمد قيادي ومؤسس في تحالف تأسيس ٨ أكتوبر ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا
|
|