غربة صعبة وسفارات السودان لا ترحم كتبه الطيب محمد جادة

غربة صعبة وسفارات السودان لا ترحم كتبه الطيب محمد جادة


10-09-2025, 02:40 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1759974027&rn=0


Post: #1
Title: غربة صعبة وسفارات السودان لا ترحم كتبه الطيب محمد جادة
Author: الطيب محمد جاده
Date: 10-09-2025, 02:40 AM

02:40 AM October, 08 2025

سودانيز اون لاين
الطيب محمد جاده-السودان
مكتبتى
رابط مختصر









صحفي مستقل

لم يكن الغريب في الغربة وحده، بل كان يحمل وطنه في جيبه أينما ذهب، في لهجته التي لا يستطيع أن يتخلى عنها مهما حاول، في ملامحه التي تشي بانتمائه، وفي جواز سفر يفتح له الأبواب أحياناً ويغلقها في وجهه غالباً. الغربة ليست فقط بعداً عن الأهل والأرض، بل هي امتحان يومي لصبر الروح، ومقاومة دائمة للانكسار.

حين غادر السوداني أرضه، حمل في حقيبته الصغيرة بعض الملابس، وشيئاً من طموحٍ يتيم، ورسائل مكتوبة بخط اليد من أمّه تخبره أن الدنيا مهما ضاقت فالله أوسع. لم يكن يعلم أنّ رحلته لن تكون مجرد مغامرة عمل أو دراسة، بل ستكون مواجهة مفتوحة مع واقعٍ يزداد قسوة كلما اقترب من أبواب السفارات السودانية في الخارج.

الغربة في ظاهرها فرص عمل، دخلاً أفضل، وربما تعليماً يفتح آفاقاً جديدة. لكن حقيقتها أشبه ببحرٍ عميق، تظنّه ساكناً، فإذا غصت فيه وجدت نفسك تصارع أمواجاً لا ترحم.

في الغربة، تتعلّم أن تبتسم وأنت مكسور، أن تتظاهر بالقوة وأنت خائف، أن تقول لأهلك عبر الهاتف: "أنا بخير، مطمئنوا عليّ"، بينما أنت في الواقع تقف ساعات طويلة تنتظر ختم جوازك في طابور السفارة، محمّلاً بالهموم، مثقلاً بالانتظار.

كثير من السودانيين في المنافي كانوا يظنون أن سفارات بلادهم هي الملاذ، البيت الثاني، الأمان حين يشتد الضيق. لكنهم اكتشفوا، مراراً، أن السفارات تحوّلت إلى حصونٍ عالية من البيروقراطية والجمود، لا ترحم المغترب ولا تضعف أمام دمعة أمهات، ولا صرخات أبنائه الذين ينتظرون وثائق السفر أو شهادات الميلاد.

في ممرات السفارات السودانية ترى وجوهاً أنهكها السفر وأرهقها الانتظار. رجال في منتصف العمر يحاولون تجديد جوازاتهم بعدما انتهت صلاحيتها، نساء يحملن أطفالاً يبكون من طول الطابور، شباب يلهثون وراء أوراق تثبت هويتهم حتى يتمكنوا من مواصلة دراستهم أو أعمالهم.

لكن ما يواجهونه ليس فقط إجراءات بطيئة أو رسوم باهظة، بل جداراً صلباً من اللامبالاة. الموظف هناك يجلس خلف مكتبه وكأن الزمن ملكه، يطلب من هذا وثيقة إضافية، ويرفض من ذاك ورقة بحجة نقص التوقيع، ويغلق النافذة في وجه ثالث لأنه تأخر دقيقة واحدة عن الموعد.

الغربة تترك على جسد المغترب ندوباً لا تُرى، لكنها تنزف داخلياً كل يوم. والصدمة تكون أكبر حين تأتي هذه الندوب من مؤسسات تمثل الوطن نفسه. أن يقسو عليك الغريب شيءٌ يمكن احتماله، لكن أن يقسو عليك وطنك، فتلك خيانة صامتة.

المغترب السوداني كثيراً ما يجد نفسه ممزقاً بين شوقه لوطن لا يرحمه، وحاجته إلى البقاء في بلادٍ قد لا ترحّب به. كلما عاد إلى السفارة ليجدّد أوراقه شعر وكأنه يُذكَّر بأن انتماءه مرهون بأختامٍ ورسومٍ ومعاملات طويلة، لا بروابط الدم والأرض.

في لحظات الغربة القاسية، يصبح الوطن صورة محفورة في القلب: أمهات ينتظرن على الأبواب، أطفال يلعبون في شوارع ترابية، نيل يجري بهدوء عند المغيب. لكن حين يحضر المغترب إلى السفارة، يفقد تلك الصورة شيئاً فشيئاً. الوطن يتحول إلى ختم على ورقة، إلى رسوم تُدفع، إلى معاملة لا تنتهي.

لقد تحوّلت السفارات، في نظر كثيرين، من بيوتٍ للسودانيين في الخارج إلى حصونٍ من حديد، يتوجب اقتحامها بشق الأنفس.

رغم كل هذا، تبقى الغربة مدرسة قاسية تُعلِّم السوداني الصبر والاعتماد على النفس. يتعلم أن يبتكر حلولاً خارج السفارة، أن يجد طرقاً بديلة ليعيش بكرامته، أن يخلق مجتمعاً صغيراً من المغتربين يشدون أزر بعضهم البعض حين تضيق السبل.

في ليالي الغربة، يجتمع السودانيون حول وجبة بسيطة من الكسرة أو الفول، يتحدثون عن الوطن بلهفة، يضحكون على مواقفهم في السفارات، ثم يسكتون فجأة حين يتذكرون أن العودة إلى الديار صارت حلماً مؤجلاً.

إنها ليست مجرد معاناة إدارية، بل هي وجع عميق يشعر به كل مغترب حين يرى أن بلده لا يحميه، بل يثقل عليه. كل سفارة كان يمكن أن تكون ملاذاً آمناً صارت عبئاً جديداً، يزيد من غربته بدل أن يخففها.

ومع ذلك، يظل السوداني صابراً. لا يتخلى عن وطنه مهما قسا، ولا ينسى جذوره مهما حاولت الأوراق أن تجرده منها. الغربة لم تستطع أن تمحو حبه للسودان، لكنها علّمته أن يحذر من مؤسسات تمثل السودان ولا تمثل السودانيين.

الغربة صعبة بما يكفي من دون أن تضيف إليها السفارات السودانية طبقة أخرى من الألم. المغتربون لم يطلبوا الكثير: مجرد معاملات إنسانية، بعض الاحترام، ونافذة تُفتح لهم دون إذلال. لكنهم وجدوا العكس، فصاروا يحملون همّ الوطن في قلوبهم، وهمّ السفارات في حياتهم اليومية.

ومع ذلك، يبقى الأمل حياً. فالغربة مهما طالت، والسفارات مهما قست، يظل الوطن حلماً لا يُمحى من القلب. والمغترب، رغم الدموع، يظل يهمس لنفسه كل ليلة: "سأعود يوماً، إلى السودان الذي أستحقه."