يوميات سائق تاكسي (3) رحلة الشفاء كتبه مالك معاذ أبو أديب

يوميات سائق تاكسي (3) رحلة الشفاء كتبه مالك معاذ أبو أديب


10-08-2025, 08:05 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1759950342&rn=0


Post: #1
Title: يوميات سائق تاكسي (3) رحلة الشفاء كتبه مالك معاذ أبو أديب
Author: مالك معاذ أبو أديب
Date: 10-08-2025, 08:05 PM

08:05 PM October, 08 2025

سودانيز اون لاين
مالك معاذ أبو أديب-USA
مكتبتى
رابط مختصر





لم يكن يطيقُ المستشفيات، لكنَّ قدره ورزقه ساقاه للتعامل مع صنفٍ آخر من الركّاب؛
مرضى يحملون أدويتهم في أكفّهم، وفي دواخلهم يعتصرون الحزنَ والألم.

في المبتدأ، كان يتقزّز منهم في صمتٍ متعبٍ.
روائحُ الدواء، قطراتُ الدم على أربطة الشاش، نظراتُهم الشاردة، أنينُهم، وصمتُهم المشوبُ بالتوجّس والخوف أحيانًا...
كلّ ذلك كان يُرهقه، ويُطيل عليه الطريق، ويُثقله.

لكن الأيامَ كانت كفيلةً بترويض قلبه، وتغييره على نحوٍ مدهشٍ ومذهل.

مريضٌ سبعينيٌّ قال له ذات يومٍ، بصوتٍ مبحوحٍ وابتسامةٍ باهتة:
"على مهلك يا بُنيّ... جسدي تعب من العَجَلة."
فأبطأ دون أن يدري أنه، في تلك اللحظة، كان يُهدّئ من قلبه هو.

وأقبلت عليه ذات يومٍ امرأةٌ، لا تسعها الفرحة، بعد أن بشّرها الطبيبُ بشفائها التامّ من داء السرطان، عقب صبرٍ طويل.
هنّأها، وفي سرّه وبّخ نفسه على إخفاقه في امتحان الصبر.

وصبيّةٌ خرجت لتوّها من المستشفى بعد رحلةِ علاجٍ مضنية؛
كانت الابتسامةُ لا تفارق محيّاها، وعيناها تحملان رغبةً جامحةً في الحياة، لا حدَّ لها.
تجاذب معها أطراف الحديث، فأحيت في نفسه آمالًا موؤودةً، وطموحاتٍ مقبورة.

توالت الرحلات، وأصبحت روتينًا محبّبًا، وعلاقاتٍ أصيلةً، وصداقاتٍ دافئة.
صار يشتري الماءَ للمرافقين، ويحنو على المرضى، ويسندُ أجسادَهم الواهنة برفقٍ لم يألفه من قبل.

وذات صباحٍ، حين تلقّى رسالةً في هاتفه من إحدى المريضات السابقات، تنضح حروفُها بالثناء والوفاء،
شعر أن العالم، رغم قسوته، ما زال يتذكّر الوجوهَ الطيّبة.

تأمّل شاشةَ هاتفه طويلًا، وبينما كان الضوءُ يتلاشى في عينيه، أحسَّ بسكونٍ ودفءٍ يسري في دواخله كماءٍ ينساب في أرضٍ عطشى.
ثمّ أدار المحرّك، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ عريضة،
كأنها تقول:

من يدري...
ربّما كنتُ أنا المريض،
وكلُّ تلك الرحلات... طريقُ شفائي.