Post: #1
Title: السياسة والاقتصاد: رقص المصالح وصراع الإرادات كتبه ا.محمد سنهوري الفكي الامين
Author: محمد سنهوري الفكي الامين
Date: 10-05-2025, 01:25 PM
01:25 PM October, 05 2025 سودانيز اون لاين محمد سنهوري الفكي الامين-UAE مكتبتى رابط مختصر
في عالمٍ تتشابك فيه الخيوط وتتعقّد المسارات، لم تعد السياسة والاقتصاد مجالين منفصلين، بل صارا وجهين لعملة واحدة. فالعلاقات بين الدول لم تعد تُبنى على المجاملات الدبلوماسية أو الشعارات الأيديولوجية، بل على المصالح الاقتصادية التي تحدد شكل التحالفات ومآل الخصومات. إنها رقصة دقيقة بين النفوذ والمكاسب، بين العقل البارد للسياسة والحرارة المتقدة للأموال والاستثمارات، رقصة ترسم ملامح المستقبل وتقرر مصير الشعوب. ولعل الأرقام وحدها قادرة على كشف عمق هذا التداخل ، فالتبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين بلغ نحو 659 مليار دولار في عام 2024، رغم التوتر السياسي بين القوتين. المال هنا يتحدث بلغة لا تعرف العداء، إذ تظل المصالح الاقتصادية هي الجسر الذي يربط حتى أكثر الخصوم عناداً.
وفي القارة الإفريقية، يشكل السودان نموذجاً حيّاً لهذه الرقصة بين السياسة والاقتصاد، بلد يمتلك ثروات هائلة من الأراضي الزراعية والمعادن والمياه، لكنه ظل رهين تقلباته السياسية. فقبل التوترات الأخيرة، بلغ حجم التبادل التجاري بين السودان والإمارات قرابة 4.4 مليارات دولار، بينما سجلت علاقاته مع مصر نحو 1.2 مليار دولار في عام 2024. ومع ذلك، يعيش السودان عجزاً تجارياً يقارب 1.8 مليار دولار بعد أن بلغت صادراته 3.1 مليارات مقابل واردات بـ4.9 مليارات.
منذ انفصال الجنوب، خسر السودان معظم عائداته النفطية، ومعها تراجعت قدرته على تمويل التنمية. السياسات الاقتصادية السابقة، من تأميم ومصادرة، أبعدت المستثمرين وعمّقت العزلة، فاختنق الاقتصاد رغم غناه بالموارد،واليوم، يبدو أن الدبلوماسية الاقتصادية هي طوق النجاة الوحيد، إذ لا يمكن لأي دولة أن تبني نهضتها في عزلة، ولا أن تجذب الاستثمارات دون استقرار سياسي.
خارج حدود السودان، تتكرر القصة بصيغ مختلفة ، في آسيا، تتبادل الصين واليابان السلع والخدمات بقيمة تقترب من 300 مليار دولار سنوياً، رغم التاريخ المليء بالحروب والمنافسة. أما الهند وباكستان، فهما وجه آخر للصراع، إذ تسببت الخلافات السياسية في تراجع التبادل التجاري بينهما إلى أقل من 2.3 مليار دولار، بعد أن كان يشكل 70% من تجارة باكستان منتصف القرن الماضي. السياسة هنا لم تكتفِ بقطع الجسور، بل هدمت الأسواق.
وفي الشرق الأوسط، تسعى تركيا جاهدة لتعزيز روابطها الاقتصادية مع دول الخليج، متجاوزة خلافات الأمس لتفتح أبواباً جديدة أمام رؤوس الأموال والاستثمارات. كما يعمل العراق على إعادة رسم خريطته التجارية بالاتجاه نحو أنقرة، إذ تجاوز حجم التبادل مع تركيا 15 مليار دولار، في وقت تخضع فيه إيران، شريكته التقليدية، لعقوبات اقتصادية خانقة. الاقتصاد، في هذه الحالات، يصبح أداة لإعادة التموضع السياسي وصياغة التحالفات من جديد.
حتى أوروبا، التي طالما قُدمت بوصفها نموذجاً للتكامل، ليست بمنأى عن هذا التوتر الخفي بين السياسة والاقتصاد. فالمحور الفرنسي الألماني، قلب الاتحاد الأوروبي، شهد في السنوات الأخيرة توترات أثّرت على الاقتصاد القاري. ورغم أن حجم التبادل بين البلدين يتجاوز 180 مليار يورو سنوياً، فإن الخلافات السياسية الداخلية كثيراً ما أبطأت إيقاع هذا التكامل الذي كان يوماً مثالاً للوحدة الأوروبية.
أما في أمريكا الجنوبية، فالعلاقة بين الأرجنتين والبرازيل تقدم مثالاً آخر على التوازن بين الشراكة والتنافس. فقد بلغت صادرات البرازيل إلى الأرجنتين أكثر من 13 مليار دولار في عام 2024، في إطار شراكة ضمن تكتل “الميركوسور”. ورغم ما يطرأ أحياناً من توترات سياسية، فإن الاقتصاد ظل الحبل الذي يربط الجارين في مواجهة الأزمات الإقليمية.
وفي إفريقيا، تظل العلاقة بين مصر وإثيوبيا نموذجاً للعلاقة المتوترة بين الضرورات الاقتصادية والاعتبارات السياسية. فخلافات سد النهضة تخيّم على إمكانات تعاون واعدة في مجالات الطاقة والزراعة، ليبقى النيل شرياناً للحياة، وموضع صراعٍ في الوقت ذاته.
في النهاية، يظل التفاعل بين السياسة والاقتصاد أشبه برقصة لا تنتهي، تتحرك فيها الدول بخطوات محسوبة على إيقاع المصالح. فالسياسة تحدد الاتجاه، لكن الاقتصاد يمنح القوة والسرعة. الدول التي نجحت في تحقيق التوازن بين الاثنين هي التي عبرت نحو الازدهار، أما تلك التي ظلت أسيرة الصراعات، فقد أهدرت ثرواتها وفرصها.
الأرقام لا تكذب، والواقع يؤكد أن الشعوب تدفع دائماً ثمن سوء الرقص بين السياسة والاقتصاد. فحين تتغلب الأهواء على المصالح، تذبل الأسواق وتتعثر التنمية. وحين تتصالح الإرادة السياسية مع الرؤية الاقتصادية، يولد الاستقرار، وتنمو الثروة، وتتحول رقصة المصالح من صراعٍ على المكاسب إلى تناغمٍ يفتح الطريق نحو مستقبلٍ أكثر توازناً وازدهاراً . [email protected] UAE
مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone
|
|