طريق السودان إلى العبث ..عندما يصبح ترديد كلمة عبثية هو العبث ذاته! كتبه عبدالغني بريش فيوف

طريق السودان إلى العبث ..عندما يصبح ترديد كلمة عبثية هو العبث ذاته! كتبه عبدالغني بريش فيوف


10-04-2025, 03:26 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1759588008&rn=0


Post: #1
Title: طريق السودان إلى العبث ..عندما يصبح ترديد كلمة عبثية هو العبث ذاته! كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 10-04-2025, 03:26 PM

03:26 PM October, 04 2025

سودانيز اون لاين
عبدالغني بريش فيوف -USA
مكتبتى
رابط مختصر





في فضاء السياسة السودانية المكتظ بالضجيج والتحليلات المتناقضة، وفي مقاهي الشتات التي تحولت إلى برلمانات مصغرة، وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة حرب موازية، تتردد كلمة واحدة كأنها لازمة موسيقية حزينة، أو تعويذة أُلقيت على أمة بأكملها، (حرب عبثية).
تُلاك هذه الكلمة بالألسن، وتُخط بالأقلام، وتُصرخ بها الحناجر، حتى كادت أن تتحول إلى حقيقة مُسلّم بها، وإلى قناعة لا تقبل الجدل.
أصبحت هذه الكلمة هي المسكّن اللغوي الذي يتعاطاه السودانيون ليتحملوا هول ما يجري في بلادهم، وكلمة السر التي تمنح قائلها تذكرة دخول إلى نادي المتحضرين ورافضي الحرب.
ولكن، دعونا نتوقف عن هذا الجَلْد الذاتي اللفظي، ونخلع نظارات الرثاء العاطفي، ونطرح سؤالا بسيطا وحارقا، وهو، هل هذه الحرب حقا عبثية؟
العبث، في أبسط تعريفاته الفلسفية واللغوية، هو غياب الغاية والمنطق والهدف، والعبثي هو الفعل الذي لا يؤدي إلى نتيجة مرجوة، هو الصرخة في وادٍ لا صدى فيه، هو الحركة العشوائية بلا وجهة، فهل ينطبق هذا التعريف على ما يحدث في السودان منذ 15 أبريل 2023؟
هل نحن فعلا أمام مشهد عبثي، أم أننا أمام حرب لها منطقها الخاص، وأهدافها الواضحة، وإن كانت هذه الأهداف قبيحة ودموية وتخدم مصالح أطرافها على حساب وطن بأكمله؟
يبدو أن العبثية الحقيقية لا تكمن في الحرب نفسها، بل في التوصيف، إنها تكمن في العجز الجماعي عن تسمية الأشياء بأسمائها، وفي الهروب نحو مصطلح مريح يعفي من مشقة التحليل ومواجهة الحقيقة المرة.
الحقيقة أن هذه الحرب ليست عبثية على الإطلاق، بل هي التعبير الأكثر دموية ووضوحا عن صراع إرادات ومشاريع ومصالح لا لبس فيها.
الأطراف التي تتقاتل على أرض السودان اليوم تعرف تماما لماذا تتقاتل، ولماذا تطلق الرصاصة تلو الأخرى، ولماذا تحرق المدن وتهجّر الملايين.
العبث ليس في فعلهم، بل ربما في عجز من يسمونها بالعبثية عن فهم هذا المنطق الجهنمي أو في رفضهم الاعتراف بوجوده.
(تفكيك شعار العبثية: المسكّن الذي يقتل التفكير)
لماذا لاذ السودانيون لهذا المصطلح؟
للأمر عدة أسباب، بعضها مفهوم إنسانياً، وبعضها الآخر يكشف عن أزمة فكرية عميقة.
أولاً/ هول الصدمة: حجم الدمار الذي لحق بالخرطوم والمدن الأخرى، وسرعة انهيار الدولة، ووحشية الانتهاكات، كل ذلك خلق شعورا بأن ما يحدث يتجاوز حدود العقل والمنطق، حين يرى المواطن بيته الذي بناه طوبة طوبة يُنهب ويُحرق، وحين يرى جاره يُقتل بدم بارد، فإن أول رد فعل طبيعي هو وصف المشهد بأنه جنون أو عبث.
إنه رد فعل عاطفي مفهوم، ولكنه لا يجب أن يكون نهاية التحليل السياسي.
ثانياً/ الهروب من المسؤولية: عندما نصف الحرب بأنها عبثية، فنحن نضعها في خانة الكوارث الطبيعية، كالزلزال أو الفيضانات أو الأعاصير وولخ، وهي أشياء تحدث فجأة، بلا فاعل حقيقي له أهداف واضحة، وبالتالي لا يمكن محاسبة أحد عليه بشكل دقيق، وهذا التوصيف يعفي الجميع، يعفي طرفي الصراع من كونهما يخوضان حرباً من أجل مشروع سياسي واقتصادي، ويعفي القوى السياسية المدنية من فشلها في بناء جبهة موحدة، ويعفي المواطن العادي من مسؤولية فهم ما يجري والمشاركة في إيجاد حل، إنها وصفة سحرية للراحة الفكرية.
ثالثاً/ الكسل الفكري: إن تحليل أهداف طرفي الحرب، وتتبع شبكات مصالحهما الإقليمية والدولية، وفهم الجذور التاريخية للصراع، هو عمل شاق يتطلب بحثا وتدقيقا وقراءة متأنية، أما إطلاق صفة العبثية، فهو الطريق الأسهل والأسرع، يعني بكلمتين اثنتين، تكون قد أصدرت حكمك، وأبديت رأيك، ووضعت نفسك في صف الحمائم ودعاة السلام، دون أن تكلف نفسك عناء فهم حقيقة ما يتقاتل عليه الصقور.
إن تكرار كلمة عبثية ليل نهار دون ضوابط، هو الذي يجعلنا أن نطلق عليه بجدارة الفعل العبثي، إنه تكرار لا ينتج معنى جديدا، ولا يقود إلى حل، بل يخلق ضبابا كثيفا يحجب الرؤية عن الأهداف الحقيقية للحرب، ولكي نرى بوضوح، علينا أن نزيل هذا الضباب وننظر ببرود إلى ما يريده كل طرف.
(أهداف الدعم السريع: مشروع السلطة والثروة البديلة)
إذا نظرنا إلى ميليشيا الدعم السريع، نجد أن حربها أبعد ما تكون عن العبثية، إنها حرب وجودية بالنسبة لها، وتتويج لمشروع بدأ قبل سنوات طويلة، وله أهداف واضحة كالشمس في منتصف نهار الخرطوم الحارق:
1/الاستيلاء على الدولة..
هذه ليست مجرد مناوشات على السلطة، بل هي محاولة انقلاب كاملة الأركان، لم يكن هدف محمد حمدان دقلو "حميرتي"، مجرد الحصول على منصب سيادي أو وزارة أو اثنتين، بل هدفه هو تفكيك الدولة السودانية التقليدية، بجيشها وبيروقراطيتها ومؤسساتها القديمة، وإعادة بنائها حول ميليشيا الدعم السريع.
إنه مشروع الدولة البديلة أو الدولة العميقة الجديدة التي تكون فيها هذه الميليشيا، هي العمود الفقري، العسكري والاقتصادي والسياسي، وهذا ليس عبثاً، بل هو طموح سياسي هائل، وإن كان منفذاً بأكثر الطرق وحشية.
2/الهيمنة الاقتصادية الكاملة..
قبل الحرب، كانت ميليشيا الدعم السريع إمبراطورية اقتصادية تسيطر على قطاعات واسعة، أهمها تعدين وتصدير الذهب، ولكن هذه السيطرة كانت تتم في ظل وجود الدولة ومؤسساتها، والحرب بالنسبة للدعم السريع هي معركة لإنهاء هذه الشراكة غير المتكافئة، والتحول من لاعب اقتصادي كبير إلى المالك الوحيد لشركة السودان المحدودة، السيطرة على البنك المركزي، والمصافي، والموانئ، والأراضي الزراعية، ليست أضراراً جانبية للحرب، بل هي من صميم أهدافها.
إنها عملية خصخصة عنيفة لموارد الدولة لصالح كيان واحد، هذا ليس عبثاً، بل هو منطق رأسمالي متوحش في أكثر صوره بدائية.
3/إعادة تعريف الهوية السياسية للسودان..
تستخدم ميليشيا السريع خطابا سياسيا ذكيا، وإن كان متناقضا، فهي تقدم نفسها على أنها تحارب دولة 56 (الدولة المركزية النيلية القديمة)، وممثلة الهامش ضد المركز، وتحارب الفلول والإسلاميين، بغض النظر عن مدى صدق هذا الخطاب، فإنه يمثل مشروعا سياسيا واضحا، هدم السردية القديمة للدولة السودانية وبناء سردية جديدة تكون هي بطلها.
إنها تحاول استغلال المظالم التاريخية الحقيقية للمجتمعات المهمشة لشرعنة انقلابها العسكري، هذا ليس عبثاً، بل هو تكتيك سياسي مدروس بعناية.
حرب الدعم السريع هي إذن حرب ذات أهداف ثلاثية الأبعاد: الاستيلاء على السلطة السياسية، والسيطرة على الثروة الاقتصادية، وفرض هوية اجتماعية جديدة، قد نختلف مع هذه الأهداف، وقد نصفها بالإجرامية والوحشية، ولكننا لا نستطيع أن نصفها بالعبثية.
أهداف الجيش: معركة البقاء واستعادة مجد غابر..
على الجانب الآخر، فإن حرب الجيش السوداني، والقوى المتحالفة معه من بقايا النظام السابق، ليست أقل منطقية من وجهة نظرهم، هي أيضاً حرب تدور رحاها حول أهداف محددة وقابلة للقياس:
1/البقاء المؤسسي..
بالنسبة للمؤسسة العسكرية التقليدية، كان وجود قوات الدعم السريع كجيش مواز ينمو ويتضخم يمثل تهديدا وجوديا له.
كانت مسألة الدمج التي فجرت الحرب، هي النقطة التي وصل فيها الصراع إلى ذروته، حرب الجيش هي، في جوهرها، معركة من أجل البقاء كالمؤسسة العسكرية الشرعية الوحيدة في البلاد.
إنه صراع من أجل احتكار العنف المشروع، وهو التعريف الأساسي للدولة الحديثة، عندما يقاتل كائن من أجل بقائه، فإن فعله لا يكون عبثيا أبدا، بل يكون غريزيا ومنطقيا إلى أقصى حد.
2/استعادة الهيبة والمركزية..
ظل الجيش السوداني لعقود طويلة هو اللاعب الأهم في المعادلة السياسية، إما حاكما مباشرا أو صانعا للحكام، وثورة ديسمبر 2018 والاتفاق مع القوى المدنية، كانا بمثابة إهانة لهذه المؤسسة وتقليص لدورها.
الحرب من وجهة نظر قيادات الجيش، هي فرصة ذهبية لمحو عار الفترة الانتقالية، وإعادة تأكيد أن الجيش هو الوصي على الدولة وحاميها، وأن لا سياسة في السودان يمكن أن تتم بمعزل عنه أو رغماً عن إرادته، إنها معركة لاستعادة الهيبة المفقودة والدور التاريخي.
3/تحالف المصلحة مع الدولة العميقة..
لا يمكن فصل حرب الجيش عن طموحات الفلول أو عناصر النظام السابق، لأن بالنسبة لهؤلاء، كانت الفترة الانتقالية كابوسا هدد وجودهم ومصالحهم، والحرب التي يخوضها الجيش تحت شعار الكرامة الوطنية ومحاربة التمرد، هي الغطاء المثالي لعودتهم إلى السلطة.
إنهم يوفرون للجيش الغطاء السياسي والإعلامي والتعبئة الأيديولوجية، وفي المقابل، يضمن لهم الجيش طريق العودة إلى مفاصل الدولة، هذا ليس عبثاً، بل هو تحالف تكتيكي وانتهازي محسوب بدقة، يهدف إلى إعادة إنتاج النظام القديم بثوب جديد.
حرب الجيش، هي أيضاً، حرب ذات أهداف واضحة، وهي، ضمان بقاء المؤسسة العسكرية، واستعادة دورها السياسي المحوري، وتمكين حلفائها من النظام القديم من العودة إلى السلطة.
مرة أخرى، قد تكون هذه الأهداف كارثية على مستقبل السودان الديمقراطي، ولكنها ليست عبثية على الإطلاق.
العبث الحقيقي: أين يكمن؟
إذا كانت الحرب ليست عبثية في دوافعها وأهدافها، فأين يكمن العبث إذن؟
العبث الحقيقي، يا سادة، لا يكمن في منطق المتحاربين، بل في النتائج الكارثية لهذا المنطق على الشعب السوداني، وفي الفجوة السحيقة بين طموحات الجنرالات ومعاناة المواطنين.
العبث الحقيقي، هو أن تُبنى مشاريع السلطة والثروة على جماجم الأبرياء وأنقاض بيوتهم.
العبث الحقيقي، هو أن تكون استعادة هيبة مؤسسة ما ثمنها إذلال شعب بأكمله وتشريده في بقاع الأرض.
العبث الحقيقي، هو أن يتحول صراع بين مكونين من نظام قمعي واحد إلى حرب أهلية شاملة، بينما يقف الشعب الذي ثار ضدهما معاً في 2019، متفرجاً يدفع الفاتورة من دمه ومستقبله.
العبث الحقيقي، هو أن يتحدث طرف عن تحرير الهامش، بينما يمارس أبشع أنواع الانتهاكات في حق أهل الهامش والمركز على حد سواء، وأن يتحدث الطرف الآخر عن السيادة الوطنية، بينما يرهن قرار البلاد وقواعدها العسكرية لمحاور إقليمية.
العبثية ليست في غياب الهدف، بل في التناقض الصارخ بين الأهداف المعلنة والواقع الممارس، العبثية هي في هذا المنطق الذي يجعل من تدمير البلاد، مسارا ضروريا لتحقيق النصر، العبثية هي أن يصبح موت الملايين مجرد أضرار جانبية في سبيل تحقيق طموح فرد أو مؤسسة.
والعبث الأكبر، هو استمرار النخب السياسية والمدنية في ترديد شعار الحرب العبثية، بدلاً من بناء مشروع وطني حقيقي يواجه مشاريع المتحاربين وأسيادهم الدوليين والإقليميين.
إن الهروب إلى هذا الشعار، هو بمثابة إعلان إفلاس سياسي، فبدلاً من تشريح أهداف الحرب وفضحها، وبناء جبهة عريضة قادرة على تقديم بديل للشعب، نكتفي بالرثاء والنواح على عبثية ما يجري.
إن أول خطوة نحو إيقاف هذه الحرب لا تكمن في إقناع أطرافها بأنها عبثية، فهم يعلمون أنها ليست كذلك بل تكمن في إدراكنا نحن، الشعب السوداني وقواه الحية، بأنها حرب ذات أهداف ومصالح يجب هزيمتها بمشروع مضاد، أكثر منطقية وعدلاً وإنسانية.
يجب أن نتوقف عن استخدام كلمة عبثية كعذر للتقاعس، يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، هي أن هذه حرب سلطة، وحرب ثروة، وحرب نفوذ، هي صراع بين مشروعين شموليين يتنافسان على جثة وطن منهك.
المواجهة الحقيقية تبدأ من الوعي، الوعي بأن ما يحدث ليس قدرا محتوما أو جنونا عابرا، بل هو النتيجة المنطقية لتراكمات من الفشل السياسي، والفساد الاقتصادي، والطموحات العسكرية الجامحة، وعندما نفهم منطق الحرب، مهما كان شيطانيا، يمكننا أن نبدأ في التفكير بمنطق مضاد، منطق السلام، ومنطق المواطنة، ومنطق الدولة المدنية الديمقراطية.
دعوا الجنرالات لمنطقهم الدموي، ولتكن مهمة الأحزاب السياسية والمثقفين والنشطاء وولخ، هي بناء منطق الحياة، فالحرب في السودان ليست عبثية، ولكن استمرار الناس في ترديد هذه الكلمة دون فهم أبعادها هو العبث بعينه، إنها حرب ذات منطق، والمنطق لا يُهزم إلا بمنطق أقوى منه.