Post: #1
Title: أستاذ عرمان، حكومتان لا تغطيان جسد الوطن أم مشروع تأسيسي يُعاد إنكاره؟ كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 10-04-2025, 02:35 AM
02:35 AM October, 03 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
3/10/2025 ، بوسطن
نشر الأستاذ ياسر عرمان في 2 أكتوبر 2025 مقالا بعنوان: (حكومتان لا تغطيان جسد الوطن: حكومة كامل إدريس جوكية وسماسرة – حكومة تأسيس تتنازعها القبائل) - استهل مقاله قائلا أنه ابتعد عن المقابلات الإعلامية، مكتفيًا بالكتابة بدافع الحزن العميق على حال السودان - اعتبر المؤتمر الصحفي لكامل إدريس "الأسوأ" خلال متابعته الطويلة، وهاجم كامل . إدريس باعتباره "مشوشًا ومرهقًا"، مطالبًا إياه بالاستقالة والعودة إلى سويسرا - وصف حكومة كامل إدريس بأنها مليئة بالجوكية والسماسرة، خاصة وزير إعلامه الذي اعتبره "سمسارًا محدود القدرات." - تساءل: من الذي يعيّن هؤلاء؟ ولمصلحة من؟ وهل يخدمون الجيش في حربه؟ رأى أن من مصلحة الجيش التخلص من هؤلاء "غير المفيدين لا في الحرب ولا في السلام." - انتقد كامل إدريس على ما اعتبره أكاذيب، مثل ادعاء تشغيل مليون شاب، وزيارة السعودية بمشروعات استثمارية وهمية. - تناول حكومة "تأسيس" أيضًا بانتقاد، معتبرًا أنها تعاني انقسامات قبلية حول التمثيل في السلطة - أشار إلى أن تكوينها عزّز الانقسام بدل معالجته - وصفها بأنها "خطيئة" أدّت إلى خلافات بين من قاتلوا ومن لم يقاتلوا ثم حصدوا المناصب - خلُص إلى أن وجود حكومتين أضرّ بالسودان - في رأيه، كلا الحكومتين لا تمثلان الشعب كله، بل جزءًا منه، وتكرسان للانقسام الجغرافي والإثني والسياسي - حمّل الطرفين (الجيش والدعم السريع) مسؤولية تدمير الفاشر، مقارنًا ذلك بتدمير لينينغراد - في الختام، قرر أن لا حكومة من الاثنتين تمتلك مشروعًا وطنيًا شاملًا يوحّد السودان - رأى أن الانقسام أعمق من البحث عن الشرعية - دعا إلى مشروع جديد يوحد الريف والمدينة، قائم على "السلام والحرية والعدالة والمواطنة بلا تمييز" - اعتبر أن المشاريع الحالية قائمة على "الجغم" (الفوضى والخلط) بعد أن استنفدت الحرب كل ذخيرتها
ولنعلق علي مايهمنا في مقال الأستاذ ياسر عرمان، والذي نختلف معه في عدد من النقاط:
أولاً: عن تعريف المشكلة وأولوية طبيعتها: من البديهي في أي مسعى علمي أو سياسي أن تكون الخطوة الأولى في طريق الحل هي تعريف المشكلة وتوصيفها. من يُعرّف المشكلة يملك زمام المبادرة، ومن يتركها سائبة يفتح الباب لتكرار الأزمات. ففي مقال الأستاذ ياسر عرمان، نجد مقاربةً قيّمة فيما يتعلق برصد الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها الطرفان الرئيسيان في الحرب – الجيش والدعم السريع – وهي شهادة مهمة من سياسي مخضرم وفاعل في مسار الحركة الوطنية السودانية منذ ثمانينيات القرن الماضي. غير أن الإشكال الجوهري أن عرمان اكتفى بهذا التشخيص في صيغة:" الكل ارتكب جرائم وهم في الجرم سواء" هذه الصيغة، على الرغم من ظاهرها المتوازن، هي إعادة إنتاج لخطاب تقليدي: خطاب يذيب الفوارق بين الفاعلين، ويتجاهل جذور المعضلة المتمثلة في الدولة المركزية القديمة، والعقد الاجتماعي المختل، وفشل النخب في بناء وطن يتسع للجميع. من المتوقع من سياسي بخبرة ياسر عرمان – الذي ساهم في هندسة بعض المراحل السياسية الناجحة هنا وهناك، كما كان جزءًا من أفشلها (المشاركة في ترتيبات أبقت مركز الدولة كما هو) – أن يذهب أبعد من هذا الخطاب التعميمي، وأن يقدم قراءة مركبة للتقاطعات المعقدة لثورة وثوار الهامش.
ثانيًا: في مسألة الشرعيّة والمشاريع الوطنيّة: يُختتم مقال الأستاذ ياسر عرمان بالقول إن (أيًّا من الحكومتين لا تمتلك مشروعًا وطنيًا شاملًا قادرًا على توحيد ضفّتي الانقسام، وإنّ الانقسام أعمق من وهم الشرعية ويتعلق بالبناء الوطني). غير أنّ هذا الحكم يغفل—أو يتجاوز عن قصد—مسارًا موثّقًا ومعلنًا أعاد بلورة مشروع السودان الجديد داخل إطارٍ مؤسّسي واضح هو تحالف تأسيس (نيروبي، فبراير/شباط 2025)، القائم على ثلاث وثائق مرجعية مترابطة: - الميثاق التأسيسي (22 فبراير/شباط 2025 علمانية الدولة وحيادها الديني ضمانًا للمواطنة المتساوية. المواطنة بلا تمييز (إثني/ديني/جهوي/نوعي) وحماية التعدد الثقافي واللغوي. عدالة تاريخية تتجاوز العدالة الانتقالية إلى جبر الضرر الجماعي للمناطق المتضررة. لامركزية فعلية في السلطة والموارد، مع شفافية وإشراك محلي. حق تقرير المصير كأداة دستورية لحماية الإرادة الجمعية. تأسيس جيش جديد بعقيدة مهنية–مدنية ترى الأمن أمنَ المواطن لا أمن النظام. - الدستور الانتقالي لتحالف تأسيس (أبريل/نيسان 2025 إنشاء الاليات لإصلاح القطاع الأمني (SSR) لتتولى وضع العقيدة الجديدة، ومعايير التدقيق الفردي (Vetting) ومسارات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) مدنية السلطة وحظر التسييس داخل القوات، وخضوع المؤسسة العسكرية للرقابة التشريعية والقضائية. عدم الإفلات من العقاب عبر آليات مساءلة واضحة لجرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة. فصل اقتصاد الجيش عن الدولة وحوكمة الموارد بعقود شفافة وتوزيع عادل. خارطة طريق انتقالية بمصفوفات زمنية ومؤشرات أداء قابلة للقياس. - وثيقة المبادئ فوق الدستورية (يوليو/تموز 2025 رفع المبادئ السابقة إلى قواعد ضابطة فوق الدستور غير قابلة للمساومة أو التعديل. إرساء هرم معياري تُستمد منه التشريعات والدساتير اللاحقة، مع محكمة دستورية لحماية السقف الحقوقي وضمان الإنفاذ بهذا المعنى، يستحيل الزعم بغياب "مشروع وطني شامل". فـثلاثية: الميثاق + الدستور الانتقالي + المبادئ فوق الدستورية تُقدّم الإطار المفاهيمي والقانوني والتنفيذي لبناء دولة ما بعد الحرب على أسس علمانية–ديمقراطية–لامركزية، وتطرح بديلًا جذريًا لدولة ما بعد الاستعمار التي أخفقت مرارًا. الإشكال ليس انعدام المشروع، بل الإقرار به وتنفيذه في مواجهة سرديات النخب والأمر الواقع في بورتسودان أو الخرطوم!
ثالثًا: مشروع السودان الجديد : ليس "السودان الجديد" شعارًا، بل نظرية سياسية صاغتها الحركة الشعبية منذ الثمانينيات (جون قرنق، وشارك فيها عرمان)، وأعاد تحالف "تأسيس" إحياءها ضمن إطار مؤسسي يقوم على: - العلمانية: فصل الدين عن الدولة ضمانًا للعدالة والمواطنة المتساوية. - العدالة التاريخية: اعتراف وجبر ضرر فردي وجماعي يتجاوز حدود العدالة الانتقالية - جيش جديد: عقيدة مهنية–مدنية تحمي التعدد وتخضع للقانون، لا دمجًا شكليًا في جيش قديم - اللامركزية وتقرير المصير: كوابح مؤسسية ضد إعادة إنتاج الهيمنة المركزية فكيف يتغاضى الاستاذ عرمان عن بديلٍ كان شريكًا في صياغة جذوره، ولو اختلف في بعض تفاصيل مسار "تأسيس"؟
رابعًا: استفهام مفتوح لعرمان – حول "تنازع القبائل" وتحالف تأسيس يتساءل عرمان في مستهل مقاله (حكومتان لا تغطيان جسد الوطن: حكومة كامل إدريس جوكية وسماسرة – حكومة تأسيس تتنازعها القبائل)! ونتساأل بدورنا: هل القبيلة مشكلة "تأسيس" أم مشكلة الدولة السودانية؟ منذ الاستقلال لم يتجاوز السودان منطق القبيلة بوصفها أداة سلطة. بل إن نظام الإنقاذ (1989–2019) جعلها مرتكزًا للحكم والتعبئة السياسية، فحوّلها من رابطة اجتماعية إلى أداة استقطاب وحرب. القبيلة إذن ليست أزمة تحالف "تأسيس"، بل أزمة الدولة السودانية القديمة التي كرّستها لتقسيم الشعب والتحكم في موارده.
إن سعي أي مجتمع أو قبيلة إلى رؤية أبنائه في مواقع القرار ليس خطيئة، بل حق سياسي مشروع، شريطة أن يكون في إطار المواطنة المتساوية لا عبر الترميز و المحاصصات التضليلية التي طالما استخدمتها نخب الخرطوم لشراء الولاءات!
. ١/ بين الواقع والأسطورة النخبوية ما يطرحه الأستاذ عرمان من أن حكومة "تأسيس" تفشل بفعل "تنازع القبائل" ليس تحليلًا موضوعيًا بقدر ما هو امتداد لخطاب نخبوية قديمة تختزل المجتمع السوداني في هوامشه في القبيلة بوصفها عائقًا دائمًا أمام الدولة الحديثة.
لكن علم الأنثروبولوجيا يكشف أن القبيلة ليست بالضرورة نقيضًا للدولة؛ فهي بنية اجتماعية فاعلة تنتج تضامنًا وتماسكًا، خاصة عندما تواجه الإقصاء أو العدوان. وكما أوضح إميل دوركهايم، فإن المجتمعات تتحول من "تماسك ميكانيكي" إلى "تماسك عضوي". غير أن القبيلة السودانية لم تُترك لتتطور، بل حُبست عمدًا في بنيتها التقليدية بفعل التهميش الممنهج من المركز.
أما كلود ليفي-شتراوس فقد بيّن أن المجتمعات "البدائية" ليست "ناقصة"، بل تمتلك أنماطًا خاصة من التنظيم والمعنى. المشكلة إذن ليست في القبيلة، بل في سلطة تسعى دائمًا إلى نزع المعنى عنها وتحويلها إلى أداة هيمنة أو فزاعة سياسية. وهذا مع تحفظنا علي تعبير "البدائية"!
: ٢/ خطاب "عدم التأهيل": كذبة النخب النخب المركزية في السودان استنسخت سردية الاستعمار حول "عدم التأهيل" لتبرير احتكارها للدولة. وهو ما سماه فرانتز فانون في معذبو الأرض "الكذبة الاستعمارية" التي تقنع المهمش بعجزه عن الحكم.
الأمثلة التاريخية متعددة: - في أميركا بعد الحرب الأهلية، حُرم الأفارقة الأمركان من السياسة بحجة أنهم "غير مؤهلين"، ثم فُرضت عليهم قوانين جيم كرو العنصرية! - "الهنود الحمر" صُوّروا كقبائل "بدائية"، وأُبعدوا إلى "محميات" بدعوى أن ثقافتهم لا تصلح للدولة الحديثة، بينما الحقيقة أن الإقصاء كان سياسة ممنهجة تهدف للسيطرة علي الأرض!
٣/ القبيلة كواقع لا كفزاعة في السودان، صارت الهوية القبلية مؤشرًا للعقاب الجماعي: الطائرات قصفت المدن والقرى، والمتحركات أُرسلت لمناطق بعينها فقط لأنها تنتمي لقبيلة محددة. هذا يعني أن القبلية ليست مجرد رابطة اجتماعية بل أداة اضطهاد سلطوي.
من ثم، فإن مطالبة القبائل بتمثيل أبنائها ليست مشكلة "تأسيس"، بل امتداد طبيعي لمطلب العدالة. الفارق أن السودان الجديد يسعى إلى تمثيل حقيقي قائم على المواطنة، في مقابل التمثيل التضليلي والمحاصصات الزائفة التي اعتادت عليها النخب القديمة.
التكنوقراط: قناع لاستدامة الهيمنة: خطاب "التكنوقراط" الذي يطرحه الكثير من النخب السودانية هذه الايام لتولي اللحكم يبدو في ظاهره دعوة إلى "الكفاءة" و"المهنية"، لكنه يخفي في جوهره إيديولوجيا مزدوجة هدفها إعادة إنتاج السيطرة المركزية بوسائل جديدة: - إعادة تدوير كذبة "عدم التأهيل"
فالمجتمعات المهمشة – التي حُرمت عمدًا من التعليم والخدمات لعقود – تُتهم مجددًا بأنها "غير مؤهلة" لتولي مناصب مؤثرة في مواقع القرار، فالتهميش الذي فرضه المركز على مدى عقود يُستعمل الآن ذريعة لإقصاء ضحاياه مرة أخرى! - التكنوقراط ليسوا محايدين
كما أوضح أنطونيو غرامشي، فالمثقفون والتكنوقراط ليسوا خارج التاريخ، بل ينتمون إلى كتل تاريخية تخدم مصالح محددة. وبالتالي، فإن استدعاء "التكنوقراط" ليكونوا البديل عن المجتمعات المهمشة ليس حلًا محايدًا، بل تكريس لهيمنة نخبوية جديدة بواجهة مهنية.
تجربة الأمركان الأفارقة مرة اخري- التهميش المؤسسي كأداة إقصاء: تجربة الأفارقة الأميركيين بعد الحرب الأهلية تقدّم نموذجًا صارخًا على هذا النمط من الهيمنة: - بعد إلغاء العبودية، واجهوا تهمة أنهم "جهلة وغير مؤهلين" للمشاركة في السياسة. - فُرضت عليهم قوانين جيم كرو التي قنّنت التمييز العرقي وحالت دون وصولهم لمراكز القرار. - الدولة الأميركية نفسها هي التي منعتهم من التعليم الجيد والفرص الاقتصادية، ثم استخدمت هذا الحرمان ذريعة لاتهامهم بالعجز- وهذا ماجري ويجري في السودان، والنخب تعد العدة لاستخدام هذه الاستراتيجية! لكن الرد الثوري من قبل الامركان الافارقة لم يكن الاستسلام، بل بناء مؤسسات تعليمية سوداء مستقلة (مثل مدارس ومراكز الكنيسة السوداء، وغيرها) هدفت إلى تأهيل جيل جديد يدخل الجامعات والسياسة، وهو ما مهّد لاحقًا لحركة الحقوق المدنية في الستينيات. وعلينا جميعا التعلم من هذه التجارب.
٤/ أبناء وبنات الهامش في السودان، وعي متجذر: اليوم، أبناء وبنات الهامش في السودان يتابعون عن كثب كيف أن النخب المركزية تعيد ترتيب أوراقها للهيمنة بدورة جديدة، مستخدمة نفس الحجة: "دعوا المتعلمين والكفاءات (التكنوقراط) يقودون". لكن هؤلاء يعلمون أن: ـ التعليم نفسه صُمّم كأداة إقصاء: فالمناهج والسياسات التعليمية في السودان كانت مركزية، عربية–إسلامية، تستبعد تاريخ وثقافات المجتمعات الأصيلة. - الوظائف والفرص وُزعت سياسيًا على أسس ولاء قبلي وجهوي للمركز. - المناطق المهمشة عُزلت اقتصاديًا وثقافيًا، ما جعل أجيالًا كاملة خارج دائرة "التأهيل" المتعمد لذلك فإن دعوى "الكفاءة" و"التكنوقراط" ليست بريئة، بل تكرار مُموّه لآلية قديمة من الإقصاء المُأسس!
(راجع مقالنا: تهمشونا لسبعين عامًا وتقولون لنا: "حكومة تكنوقراط"؟! حول تهميش السودانيين وبنية الدولة القديمة واستراتيجية الاحتيال تكنوقراطيا! )26/6/2025
. ٥/ نحو إدارة إيجابية للتنوع الان، السؤال ليس: هل القبيلة "مثقبة" تفشل المشروع او تهدد الدولة؟ بل: كيف نُدير وجودها كحقيقة اجتماعية لا مهرب منها؟
الإجابة: - إشراك جميع القبائل والمجتمعات في السلطة على أساس المواطنة - تمكين المهمشين بالتعليم والتأهيل - جعل التكنوقراط منفذين لإرادة سياسية عادلة، لا بدائل عن الشعوب، وهنا مربط الفرس كما يقال! - الاعتراف بأن التهميش لم يكن "قدرًا اجتماعيًا" بل استراتيجية مركزية لإدامة السيطرة. في تقديرنا، ما يسميه الأستاذ عرمان "تنازع القبائل" ليس سوى إعادة إنتاج لفزاعة نخبوية استعمارية. القضية الحقيقية ليست صراع قبائل على سلطة، بل صراع شرعيات: هل تبقى محتكرة في المركز والنخب التقليدية، أم تُعاد صياغتها عبر مشروع "السودان الجديد" الذي يؤسس لتمثيل عادل وحقيقي لكل السودانيين بلا استثناء؟
٦/ استفهام موجّه إلى الأستاذ عرمان: بين التحليل الموضوعي والانكفاء الذاتي: يبقى السؤال الجوهري: هل ما قدّمه الأستاذ ياسر عرمان في هذا المقال قراءة موضوعية تنطلق من معطيات الواقع وتحوّلاته، أم أنه انعكاس لخذلان ذاتي وحزن سياسي يلوّن موقفه الراهن؟
فهو أكثر من يعرف أن حكومة "تأسيس" لم تُبنَ على نزاع قبلي عابر، بل على مشروع وطني متكامل علي راسه الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. في الأراضي المحررة- مناطق سيطرة الحركة الشعبية، جرى تكريس علمانية الدولة بوصفها شرطًا للعدالة التاريخية، وربطها بالمواطنة المتساوية التي تحترم الحقوق الروحية والسياسية للمسلمين وغيرهم على السواء! من هنا يطرح التساؤل نفسه: - أليس من البديهي أن المجتمعات التي انتزعت مكاسب تاريخية في الحرية والعدالة لن تتنازل عنها إرضاءً لسرديات إقصائية صاغها المركز لعقود؟ - وهل يمكن إنكار وجود مشروع وطني جديد – موثّق في الميثاق التأسيسي، والدستور الانتقالي، والمبادئ فوق الدستورية – يُطبّق بالفعل في المناطق المحررة؟ إذن، فإن التساؤل الحقيقي الموجّه لعرمان هو: - هل يرفض الاعتراف بانتقال مركز السياسة من الخرطوم إلى الهامش؟ - أم يرى في مشروع السودان الجديد تهديدًا للنخب التقليدية التي ظل جزءًا منها رغم محاولاته التمرد عليها؟ - أم أنه اكتفى اليوم بدور الناقد الحزين، بعد أن كان فاعلًا مؤسسًا في مراحل سابقة من النضال؟ إن ما يتجاهله عرمان – بوعي أو بغير وعي – هو أن السودان الجديد يتشكل أمام أعيننا، وأن النخب القديمة فقدت القدرة على احتكار الشرعية كما اعتادت لعقود طويلة!
اخيرا: من "وهم الشرعية" إلى التحول التاريخي: الحوارات الجارية اليوم حول تحالف "تأسيس" لا تمثل مجرد تكرار للمشهد السياسي، بل اختراقًا تاريخيًا غير مسبوق في مسار الدولة السودانية. فالميثاق التأسيسي، والدستور الانتقالي، والمبادئ فوق الدستورية ليست شعارات فضفاضة، بل نصوص مكتوبة وملزمة تشكل أساسًا لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع. لأول مرة، تُرسم حدود واضحة لسلطة المركز على حساب الهامش، وتُرفع مبادئ المواطنة بلا تمييز إلى مرتبة قواعد فوق دستورية غير قابلة للمساومة. إن الشرعية، في بعدها الداخلي والخارجي، ليست نصًا شكليًا أو توافقًا هشًا، بل عملية ديناميكية تتجسد في الصراع السياسي والتفاوض المجتمعي. وقد اكتسبت حكومة "تأسيس" شرعية جماهيرية واسعة، خاصة بين الحواضن الإثنية للمهمشين، وهو أمر مفهوم تاريخيًا: إذ أن التهميش نفسه تأسس على خطوط عرقية وثقافية، فجاء المشروع الجديد ليحوّل هذه الخطوط من أدوات إقصاء إلى أسس للمواطنة المتساوية. لقد كان على الأستاذ عرمان أن يدرك أن ما يجري ليس تنازعًا على سلطة انتقالية، بل إعادة تعريف جذرية للدولة السودانية. إن التشكيك في هذا التحول إنما هو إنكار لواقع جديد تؤكده نصوص الميثاق والدستور والمبادئ فوق الدستورية، وتجسّده الممارسة في الريف والمدينة معًا. وإذا كان قد قال بحق إن "وهم الشرعية" ليس حلًا، فإن الأجدر اليوم أن يعترف بأن الشرعية الحقيقية تكتسب من الشعب و تُبنى على مشروع مكتوب، مؤسسي، وملزم: مشروع السودان الجديد الذي يضع الحرية، السلام، العدالة، والمساواة كأسس واضحة لدولة ما بعد الحرب. ويبقى السؤال مفتوحًا أمامه:
أليس هذا المشروع نفسه – مشروع السودان الجديد – هو ما ناضلت من أجله الحركة الشعبية منذ أكثر من أربعة عقود، وكان هو ذاته جزءًا أصيلًا فيه؟ فلماذا يصرّ اليوم على إنكاره ومحاولة التشويش عليه؟ هل هو تراجع ذاتي فرضته مرارة الانكسارات، أم عودة اضطرارية إلى دفء النخب القديمة التي يعمل المشروع الجديد على تجاوزها نهائيًا؟
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|