Post: #1
Title: يا شيخ موسى هلال ..الطريق إلى لاهاي لا يمر عبر بيانات النفاق! كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 10-02-2025, 07:32 PM
07:32 PM October, 02 2025 سودانيز اون لاين عبدالغني بريش فيوف -USA مكتبتى رابط مختصر
من أعظم أنواع النفاق، وأكثرها إثارة للغثيان، هو أن يرتدي الجلاد ثوب الواعظ، وأن يطالب الذئب بمحاكمة خاطفي الخرّاف. *************** في مسرح العبث السوداني، حيث تتشابك المأساة مع الملهاة السوداء، وحيث تتجاوز الوقاحة كل حدود المنطق والخيال، تطل علينا شخصية من أرشيف الجريمة المنسية، لتلقي علينا موعظة في القانون الدولي وحقوق الإنسان. الكلام هنا عن الشيخ موسى هلال، الأب الروحي لميليشيات الجنجويد، والرجل الذي يرتبط اسمه بأنهار من الدماء ومحيطات من الدموع في دارفور. هذا الرجل، الذي قضت المحكمة الجنائية الدولية سنوات وهي تطالبه بتسليم نفسه لمواجهة اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يخرج علينا اليوم من جحره، لا ليعلن توبته أو يطلب الصفح من ضحاياه، بل ليقدم طلبا عاجلا لنفس المحكمة التي بصق على قراراتها وتحدى العالم أجمع رافضا المثول أمامها. المشهد بحد ذاته يستحق أن يُدرس في أكاديميات الفنون المسرحية كنموذج للكوميديا التراجيدية، حيث أن الشيخ هلال، عبر ما يسمى بمجلس الصحوة الثوري، (ويا لسخرية الاسم!)، يطالب الجنائية الدولية بفتح تحقيق شامل وعاجل في قضية تجنيد المرتزقة الأجانب الذين يقاتلون في صفوف ميليشيا الدعم السريع. يتحدث بيانه بمرارة عن مقاتلين من كولومبيا وأوكرانيا وتشاد وليبيا، وكيف أن وجودهم يدوّل الصراع وينتهك القانون الدولي الإنساني ويساهم في ارتكاب جرائم حرب. عزيزي القارئ.. توقف هنا للحظة، وخذ نفسا عميقا وحاول أن تستوعب حجم الصفاقة الكونية المطلوبة لإصدار مثل هذا البيان. موسى هلال، الرجل الذي أسس وشيّد بنفسه النموذج الأول للوحشية المنظمة في دارفور، والذي كانت ميليشياته هي النواة والجنين الذي خرج من رحمه وحش الدعم السريع، يشكو اليوم من سلوك ابنه العاق. إنه أشبه بدكتور فرانكنشتاين، وهو يقدم بلاغا للشرطة بأن الوحش الذي خلقه قد خرج عن السيطرة وبات يرعب أهل المدينة. هل يعتقد الشيخ موسى حقا أن ذاكرة أهل دارفور، بل ذاكرة العالم، قصيرة إلى هذا الحد، هل يظن أننا نعيش في عالم ذاكرة السمكة، ننسى فيه كل شيء بعد ثلاث ثوان؟ قبل أن نسترسل في تحليل هذه المسرحية الهزلية، دعونا ننعش ذاكرتنا المنهكة المتعبة، حيث أنه في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، عندما كانت قرى دارفور تحترق وتتحول إلى رماد، وعندما كان الاغتصاب يستخدم كسلاح حرب ممنهج، وعندما كان الرجال يُقتلون وتُسرق مواشيهم وتُهجر نساؤهم وأطفالهم، كان اسم موسى هلال يتردد في كل تقرير أممي، وفي كل شهادة لناجٍ، كقائد لأكثر الميليشيات العربية فتكا وشراسة (الجنجويد). لقد كان هلال، زعيم قبيلة المحاميد، هو الأداة التنفيذية لسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها نظام البشير آنذاك. كان هو شيخ الجنجويد الذي يبارك عملياتهم، ويحشدهم، ويطلقهم لقتل الفور والمساليت والزغاوة، وأن الأدلة التي جمعتها المحكمة الجنائية الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، والصحفيون الشجعان، كانت دامغة. تحدثت التقارير، عن هجمات منسقة بين قواته وطيران الجيش، وعن عمليات قتل جماعي، وعن استهداف ممنهج للمدنيين، وبناءا على ذلك، صدرت في حقه مذكرة توقيف دولية. وماذا كان رده آنذاك، هل رحب بالعدالة، هل قال إنه سيذهب إلى لاهاي ليثبت براءته؟ كان رده مزيجا من الغطرسة والتحدي والازدراء، أعلنها صراحة أنه لن يذهب إلى محكمة المستعمرين البيض، وأن أي محاولة للقبض عليه ستواجه بالقوة، حيث احتمى بقبيلته وبسلطة النظام الذي كان يخدمه، وظل لسنوات رمزا للإفلات من العقاب، وشاهدا حيا على عجز العدالة الدولية أمام أمراء الحرب المدعومين من الدول. والآن، بعد كل هذا التاريخ الدموي، وبعد أن أدار ظهره للعدالة الدولية بكل عنجهية، يأتي نفس الرجل ليطرق بابها ويستجديها التدخل. بأي وجه يجرؤ على ذلك، بأي منطق يمكن أن يطلب من القاضي الذي رفض المثول أمامه أن يحكم له في قضية جديدة؟ نفاق تكتيكي أم صحوة ضمير متأخرة؟ الجواب واضح وبديهي، ما نراه ليس صحوة ضمير مفاجئة حلت على الشيخ موسى في شيخوخته، بل هو فصل جديد من فصول الصراع على السلطة والنفوذ داخل معسكر الجريمة نفسه. إنها ليست معركة بين الخير والشر، بل هي معركة بين وحشين خرجا من نفس الرحم. موسى هلال يرى في خصمه اليوم، محمد حمدان دقلو "حميرتي"، قائد ميليشيا الدعم السريع، التلميذ الذي تفوق على أستاذه، يراه خطرا عليه، إذ أن الدعم السريع ما هو إلا النسخة المطورة والمؤسسية والممولة بسخاء من ميليشيا الجنجويد القديمة. لقد أخذ حميرتي نموذج هلال، نموذج الميليشيا القبلية التي تعمل كوكيل للدولة في القمع، وطورها لتصبح قوة عسكرية واقتصادية وسياسية هائلة تهدد بابتلاع الدولة السودانية بأكملها. لقد تم تهميش هلال وسجنه في فترة من الفترات، وشاهد إمبراطوريته القديمة تنهار بينما تتمدد إمبراطورية تلميذه السابق، واليوم، ومن موقع الضعف والغيرة السياسية، يحاول استخدام كل ورقة ممكنة لضرب خصمه، ورقة المرتزقة الأجانب، هي ورقة جذابة إعلاميا وسياسيا، فهو من خلالها يحاول أن يصور نفسه كوطني غيور يدافع عن سيادة السودان ضد الغزاة الأجانب، بينما يصور حميرتي كعميل لقوى خارجية لا يهمه سوى السلطة والمال. إنها محاولة بائسة لغسل السمعة وإعادة التموضع السياسي، هلال لا يعترض على مبدأ وجود الميليشيات، فهو أبوها الروحي، ولا يعترض على قتل المدنيين، فتاريخه يشهد بذلك، ولا يعترض على انتهاك القانون، فقد بنى مجده على أنقاضه. اعتراضه الوحيد هو أن شخصا آخر يقود حفلة الجريمة الآن، وأنه لم يعد المدعو الأول فيها، هو يشتكي من نوعية القتلة، وليس من فعل القتل نفسه، فهل دم السوداني الذي يقتل على يد مرتزق كولومبي أغلى من دم السوداني الذي قُتل على يد جنجويدي من أبناء جلدته بأوامر مباشرة من هلال؟ رسالة إلى لاهاي، ورسالة إلى هلال.. للمحكمة الجنائية الدولية نقول، نعم، يجب التحقيق في كل الجرائم المرتكبة في السودان، بما في ذلك جريمة استخدام المرتزقة، فدماء السودانيين ليست رخيصة، ولكن، يجب ألا تسمحوا لمجرمي الأمس باستخدامكم كأداة في تصفية حساباتهم اليوم. يجب أن يكون التحقيق شاملا، وأن يبدأ بالملفات القديمة التي علاها الغبار في أدراجكم، مثل ملف موسى هلال يجب أن يُنفض عنه الغبار ويوضع على رأس الطاولة. أما للشيخ موسى هلال، فنقدم له اقتراحا بسيطا وصادقًا، اقتراحا متواضعا على طريقة جوناثان سويفت: يا شيخ، إننا نثمن ونقدر عاليا صحوتك القانونية المفاجئة، وإيمانك المستجد بضرورة العدالة الدولية، إنه لأمر يثلج الصدر أن نرى أحد أبرز المطلوبين للعدالة يصبح من أشد المدافعين عنها، ولإثبات حسن نيتك، ولإعطاء طلبك مصداقية لا يرقى إليها الشك، نقترح عليك خطوة عملية بسيطة، وهي ان تسلم نفسك للجنائية أولا. احجز تذكرة ذهاب فقط على أقرب طائرة متجهة إلى أمستردام، ومن هناك، خُذ سيارة أجرة ستوصلك بكل ترحاب إلى مقر المحكمة في لاهاي، وقل لهم: أنا المطلوب موسى هلال، لقد أتيت طواعية لأواجه العدالة في التهم المنسوبة إليّ منذ سنوات، وبعد أن تفرغوا من قضيتي، لديكم طلب عاجل بخصوص جرائم جديدة يرتكبها آخرون في دارفور. عندها فقط، يا شيخ هلال، يمكن للعالم أن يأخذك على محمل الجد، عندها فقط، يمكن أن نصدق أن دافعك هو حب السودان والحرص على القانون. أما قبل ذلك، فكل ما تفعله ليس سوى ضجيج منافق في مستنقع السياسة السودانية الآسن، ومحاولة بائسة من جلاد قديم لتشويه سمعة جلاد جديد. إن ضحاياك في دارفور، الأحياء منهم والأموات، يراقبون هذا المشهد بمرارة، وهم يدركون تماما أن الذئب لا يمكن أن يصبح حارسا للغنم، حتى لو ارتدى أفخم أنواع الصوف، فالعدالة لا تتجزأ، والجريمة لا تسقط بالتقادم، والنفاق لا يبني وطنا.
|
|