العدالة عبر الشاشة: نحو قضاء رقمي سوداني كتبه ا. محمد سنهوري الفكي الامين

العدالة عبر الشاشة: نحو قضاء رقمي سوداني كتبه ا. محمد سنهوري الفكي الامين


09-29-2025, 12:21 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1759144870&rn=0


Post: #1
Title: العدالة عبر الشاشة: نحو قضاء رقمي سوداني كتبه ا. محمد سنهوري الفكي الامين
Author: محمد سنهوري الفكي الامين
Date: 09-29-2025, 12:21 PM

12:21 PM September, 29 2025

سودانيز اون لاين
محمد سنهوري الفكي الامين-UAE
مكتبتى
رابط مختصر





لم يعد القضاء في عصرنا الحديث مجرد قاعات تقليدية وجدران مكسوة بأوراق القضايا، بل صار فضاءً أوسع يمتد إلى العالم الرقمي حيث تختصر التكنولوجيا المسافات، وتعيد تعريف العدالة في صورة أكثر سرعة وشفافية وكفاءة. إنّ فكرة القضاء الرقمي لم تعد ترفًا فكريًا أو خيارًا نظريًا، بل تحولت إلى ضرورة تمليها تعقيدات الزمن الراهن، خاصة في بلدان كالسودان التي تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها بعد عقود من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. توطين هذا النظام في السودان ليس مجرد خطوة تقنية، بل هو تحول بنيوي قد يُعيد للعدالة هيبتها ويمنح المواطن ثقة أكبر في دولة القانون.
التجارب الدولية في هذا المجال تكشف عن مسارات ملهمة. ففي إستونيا، على سبيل المثال، أصبح التقاضي الإلكتروني جزءًا من الهوية الوطنية الرقمية، حيث يمكن للمواطنين متابعة القضايا، تقديم الطعون، بل وحتى المشاركة في جلسات عن بُعد دون الحاجة إلى الوقوف في طوابير المحاكم. التجربة البريطانية بدورها جسّدت نموذجًا مهمًا في محاكمات المرور والقضايا البسيطة عبر منصات إلكترونية سريعة تتيح الفصل في النزاعات دون إهدار وقت المتقاضين أو موارد الدولة. أما في دولة الإمارات فقد تجاوز الأمر حدّ التطبيقات الجزئية، إذ أُنشئت محاكم رقمية متكاملة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في فرز القضايا وجدولة الجلسات، ما جعلها واحدة من أسرع أنظمة العدالة تطورًا في المنطقة. هذه النماذج تعكس واقعًا يمكن للسودان أن يستلهمه، مع مراعاة خصوصيته القانونية والاجتماعية.
لكن لماذا يحتاج السودان إلى قضاء رقمي؟ أولًا لأن العدالة البطيئة في جوهرها ظلم مضاعف، والمواطن السوداني ظل طويلًا أسيرًا لتعقيدات إجرائية تمتد لشهور وربما لسنوات، في وقت يمكن فيه أن تُحسم قضايا كثيرة بفضل نظام مؤتمت وشفاف. ثانيًا لأن توطين القضاء الرقمي يعني تقليص فجوة الفساد التي قد تنشأ من التلاعب في الملفات الورقية أو التأخير المتعمد، فالنظام الرقمي يُسجّل كل حركة ويوثقها بما يضمن نزاهة العملية القضائية. ثالثًا، وهو الأهم، أن السودان بلد واسع جغرافيًا ومتعدد الأقاليم، وتوفير خدمات عدلية رقمية يمكن أن يقلص مركزية الخرطوم ويمنح الأقاليم ذات الحق في الوصول إلى العدالة بسرعة وبتكلفة أقل.
إنّ التحديات قائمة بلا شك. ضعف البنية التحتية الرقمية، وغياب الانتشار الواسع للإنترنت، وضعف الثقافة التقنية لدى بعض الشرائح، كلها عوائق ينبغي التعامل معها بجدية. إلا أنّ الحلول ممكنة إذا ما وُضع مشروع القضاء الرقمي ضمن أولويات الإصلاح المؤسسي. يمكن البدء تدريجيًا عبر رقمنة الأرشيف القضائي أولًا، ثم الانتقال إلى تطبيقات استقبال الدعاوى إلكترونيًا، وصولًا إلى عقد جلسات عبر الفيديو للمناطق النائية. هذه الخطوات ليست معقدة بقدر ما تتطلب إرادة سياسية، دعمًا ماليًا، وتعاونًا بين الدولة والقطاع الخاص في بناء بنية تحتية قانونية-تكنولوجية متماسكة.
ما يميز تجربة السودان المحتملة أنّها تأتي في ظرف تاريخي فارق، حيث يبحث المجتمع عن أدوات لإعادة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. والقضاء الرقمي يمكن أن يكون أداة لترسيخ هذه الثقة، إذا ما أُدير بعقلية تستفيد من التجارب الدولية وتبتكر حلولًا تناسب البيئة السودانية. فليس المطلوب نسخ النماذج الأوروبية أو الخليجية بحذافيرها، بل توطين الفكرة بما ينسجم مع ثقافة المجتمع، وإمكانات الدولة، وتطلعات المواطن البسيط الذي يريد فقط أن ينال حقه بلا تعقيد ولا فساد.
إنّ العالم يتغير بسرعة، وإذا ظل السودان خارج هذا الركب فسوف يجد نفسه أمام فجوة يصعب ردمها لاحقًا. العدالة ليست فقط أحكامًا تصدر، بل منظومة ثقة عامة في أنّ الحق يُسترد وأنّ الدولة حامية للمجتمع. لذلك فإنّ التحول إلى القضاء الرقمي لا يجب أن يُنظر إليه كخدمة تقنية ثانوية، بل كجزء أصيل من مشروع بناء الدولة الحديثة. السودان الذي عانى من هشاشة مؤسساته يستحق أن يرى قضاءً رقميًا يجسد حلم العدالة السريعة والنزيهة، ويجعل العدالة أقرب إلى كل مواطن، حتى في أقصى القرى والأطراف.
إنّ رقمنة القضاء السوداني ليست مجرد مسار تقني، بل هي رهان على المستقبل، ورهان على أن تكون العدالة ضوءًا لا يخفت في وجه الظلام، وأن تكون دولة القانون حقيقية لا شعارات. السودان يمكنه أن يبدأ اليوم قبل الغد، وأن يصنع تجربته الخاصة، تجربة تضعه على خريطة الدول التي أدركت أن العدالة الرقمية ليست خيارًا، بل قدرًا حتميًا لعصر لا ينتظر المتأخرين .