Post: #1
Title: عبد الخالق محجوب في عيد ميلاده الثامن والتسعين (23 سبتمبر 1927): الفدرالية وعقدة الذنب الليبرالية (
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 09-28-2025, 03:47 AM
04:47 AM September, 27 2025 سودانيز اون لاين عبدالله علي إبراهيم-Missouri-USA مكتبتى رابط مختصر
عبد الخالق محجوب في عيد ميلاده الثامن والتسعين (23 سبتمبر 1927): الفدرالية وعقدة الذنب الليبرالية (الحلقة الخامسة)
لم يستسغ منصور خالد عبارة عبد الخالق محجوب في مؤتمر المائدة المستديرة (مارس 1965) الذي انعقد للتداول في مسألة الجنوب التي رد بها على صفوة من الجنوبيين شغبت في وجه الشماليين فيه بوصفهم ب"أحفاد الزبير باشا". فقال عبد الخالق:
كم تمنينا لو شملت رياح التغيير بعض إخوتنا ممن يحبذون نعتنا "أحفاد الزبير باشا". حسناً نحن أحفاد الزبير باشا (ضحك في القاعة) فإننا لا نتوارى من تاريخنا. ولكننا ننتقده بموضوعية وبدون مرارات. نحن نتعلم درساً من كل ذلك بيننا . . ... فأحفاد الزبير تقدموا مع خطى الزمن لبناء السودان الجديد، ومؤسساته التقدمية ومن بينها الحزب الشيوعي السوداني".
وجاء منصور بما اعتقد ما كان على عبد الخالق قوله ليلحن به. ونسارع أولاً لتصحيح سوء نقله عن عبد الخالق. فجاء ذكر قول عبد الخالق عند منصور على النحو التالي:
"نحن فخورون بأن نكون أحفاد الزبير". وعلق: ويا لذلك من فخر . . . فأي تفاخر بالرق يدخل في باب المعايب والمثالب".
وهو نقل فيه عوار لا مناص.
وليس ما جاء عند منصور مما كان بوسع عبد الخالق قوله فيفحم بأسعد من نقله. فقال كان بوسع عبد الخالق أن يرد كيد أقري جادين، زعيم حزب سانو داعية الانفصال ومن وصف الشماليين ب"أحفاد الزبير" لوجههم، بكيد. فيذكره بأن ما كان يقوم به الزبير باشا ليس أقل من مسؤولية أسلافهم الذين كانوا يمدون الزبير باشا بالبازنجر الذين كان يطلقهم في الغابات لاصطياد إخوانهم من الاستوائيين. بدلاً من المفاخرة بالزبير وخطاياه. وقصر منصور خطايا الزبير على النخاسة واستحسن منه نشر الإسلام والعربية إذا فهمنا نصه "فلو كان التفاخر بما قام به الزبير باشا لنشر الإسلام والعربية لجاز لكثير من أهل السودان الفخر به وبما أنجر، ولكن عندما يكون الحديث عن الزبير النخاس فأي تفاخر بالرق يدخل في باب المعايب والمثالب".
كنا قد أخذنا أمس في بيان سوءة الكتابة عن الجنوب التي طوته في ماض كئيب عنوانه الرق دون الزمالة في التاريخ التي أراداها له عبد الخالق في كلمته. وما زاد منصور هنا من أن يتردى بالجنوب والشمال معاً في ماض لم تحسن إليه الكتابة التاريخية. بل ودعاهما للتغايظ به. فالرق في نطاق مجتمعات الجنوب من غير من كانوا يوردون الرقي للزبير باشا مغايظة واجد. كتب عنه الأكاديمي جنوب السوداني سكوباس بوقو والأكاديمية الأمريكية ستفني بيسوك التي كان والدها مدير مشروع جودة بالنيل الأبيض في يوم مذبحة مزارعيه بعنبر كوستي المشهورة في 1956.
رغبنا في تحرير الجنوب من وخم ماض يرزح تحته كما رأينا من مقالة دوقلاس جونسون فإذا بمنصور يزيد ضغثاً على إبالة بدعوته للشمال والجنوب للتهاتر حول ذلك الماضي ملجمين دون أي خطاب آخر أوسع وأنجع عما يجمعنا في مخاطرة الأمة الدولة. ويقول السودانيون عن هذا الترحل في الارتباك: يسلوها من الطين تقع في الرُب، وهو ما لزج من الطين وتلبك.
ولا تقتصر "زرنجة" الشماليين من سنخ منصور للجنوب على الرق في ماضيه المساء إليه من كتبة تاريخه. فصارت "الفدرالية"، وهو مطلب النواب الجنوبيين عند الاستقلال لقيام نظام الحكم في السودان على وتيرته، هي نفسها بعض كآبة المنظر في ماضي الجنوب الحديث. فلم تعد مطلباً مشروعاًً تتعاوره السياسة وتتقلب به بل تظلماً جنوبياً كمثل الرق وعاراً شمالياً لحنثه وعده للجنوب بتنزيل الفدرالية خطة في الحكم. ودخل إخلاف الوعد ذلك من ضمن ما يستعر الشمالي الليبرالي منه في خطيئته الأولى حيال الجنوب. فضاعف عار ذلك الحنث بالوعد من حمى عقدة الذنب الليبرالية عندهم.
وعلى بينة نقض الجيل الشمالي للاستقلال ميثاقهم لمنح الجنوب الفيدرالية رأى القانوني سلمان محمد سلمان في ذلك خطأ شمالياً جسيماً ترتبت عليه في خاتمة المطاف دعوة الجنوبيين إلى حق تقرير المصير فالانفصال. ويفوت على سليمان هنا أن الجنوب لم يثبت على دعوة الفيدرالية لما يتزحزح عنها أبداً. فلم يدع الجنوبيون إلى الفيدرالية في كل أطوار حركتهم القومية، بل قبلوا بالحكم الذاتي الأدنى درجة عن الفيدرالي باتفاق أديس أبابا مع نظام الرئيس نميري الذي أسعد القوميين الجنوبيين لعقد كامل ما بين عامي 1972 و1983. ناهيك عن أن الجنوب كان قد تخلى عن الفيدرالية منذ الثمانينيات الأولى بظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي. فلا نعرف دعوة إلى وحدة السودان معززة بقوة الخيال والنساء والرجال مثل دعوة الحركة للسودان الجديد. وفيها تخلت حركة كبرى في الجنوب حتى عن خصوصية مسألة الجنوب لأن كل السودان عندها جنوب. فليست للجنوب، في قول دعاتها، مشكلة بذاتها قائمة علاجها في الفيدرالية، خلافاً لإلحاح سلمان، أو الانفصال. فميثاق الحركة (1983) صريح في القول بإن الحركة لا تريد تحرير الجنوب بالفيدرالية، أو الانفصال، بل تحرير كل السودان. وقال سلمان نفسه إن الحركة تبنت بخط السودان الجديد منهجاً وطنياً شاملاً لكل السودان تقاطر له الناس من كل فج في حرب تحرير أهلية لم تعد تقتصر على صدام الجيش الشمالي مع حركة مقاومة جنوبية. فتغيرت الحال تغيراً صار به الشمالي يقاتل جنباً إلى جنب مع رفيقه الجنوبي ضد القوات المسلحة على أمل تحقيق السودان الجديد. وهكذا سقطت لقرابة 30 عاماً، هي عمر حركة السودان الجديد، دعوة الفيدرالية التي يقول سلمان إنها أس مشكلة الجنوب وإن نقض الحكومات الشمالية لها هو الذي ساق إلى فصل الجنوب. وحدث ما حدث وانفصل الجنوب في 2011. وفطن سلمان هنا إلى أن الحركة هي التي نقضت وعدها في ميثاقها بتنزيل سودان جديد بحد السلاح ومهما كلف، وغادرت السودان نهائياً، رامية بالدعوة إلى السودان الجديد على قارعة الطريق. ولم يجد سلمان مع ذلك مانعاً من أن يلقي لها المعاذير بقوله "فإذا كانت الحركة الشعبية قد نكثت بوعودها الرامية للسودان الجديد الموحد، فكم من الوعود كانت الأحزاب الشمالية قد نقضتها قبل ذلك؟ الفرق أن الحركة قد أدت دورها بذكاء وحنكة كانا غائبين غياباً تاماً في أحزاب الشمال". وهكذا وجد سلمان للحركة الشعبية مخرجاً من عيب نكث العهد عنها بالتنويه لا بوسامتها الفكرية فحسب، بل أيضاًُ بوسامة عقيدته القائلة إن نقض حكومة الشمال لعهد الفيدرالية هو الذي ساقنا إلى الانفصال على رغم أن دعوة الفيدرالية تبخرت من الخطاب الجنوبي القومي منذ 1983.
وهكذا دخلت الفدرالية من ضمن ما يخذ عقدة الذنب الليبرالي. والعقدة في تعريفها تصيب الجماعة السياسية حين لا يعود بوسعها أن تبشّر بصدق واستقامة بالألفة القومية من فرط هوانها على الناس فتنتهي إلى وخز الضمير، وندب عار أهلها وقبيلها حيال الجماعات المُضَطَهدة. وهذه خطة بائسة لا تتجاوز لطم الخدود ومعط الذات بدلاً عن مطلب عبد الخالق في كلمته للفعل التاريخي مع الآخر فالتغيير والإنجاز.
|
|