Post: #1
Title: الاقتصاد الابداعي وصناعة الموارد كتبه محمد سنهوري الفكي الامين
Author: محمد سنهوري الفكي الامين
Date: 09-27-2025, 03:08 PM
04:08 PM September, 27 2025 سودانيز اون لاين محمد سنهوري الفكي الامين-UAE مكتبتى رابط مختصر
في عالم تتسارع فيه التحولات الاقتصادية وتتنافس الأمم على ريادة المستقبل، برز نموذج جديد يحمل بذور النهضة الحقيقية. إنه الاقتصاد الإبداعي، الذي لا يعتمد على استخراج الثروات الطبيعية أو تشغيل المصانع الضخمة، بل يجعل من الإبداع البشري والثقافة والفنون محوره الأساسي. وفي هذا النموذج، تكمن فرصة ذهبية للسودان لتحقيق نقلة حضارية حقيقية.
الاقتصاد الإبداعي يقوم على استثمار الطاقات الإبداعية والثقافية كمصدر أساسي للقيمة المضافة والنمو. في هذا النموذج تصبح الأفكار والمعرفة والإبداع رأس المال الحقيقي، وتتحول الثقافة من مجرد تراث يُحفظ إلى صناعة حيوية تولد فرص العمل وتدر الأرباح وتعزز الهوية الوطنية.
التجارب الدولية أثبتت أن هذا المسار ليس مجرد حلم، بل واقع تدعمه الإحصاءات. فوفقاً لتقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية لعام 2024، يساهم الاقتصاد الإبداعي بنسبة تتراوح بين 0.5% إلى 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 36 دولة نامية، ويوظف ما بين 0.5% إلى 12.5% من القوى العاملة. وعلى المستوى العالمي، تشير تقديرات اليونسكو إلى أن القطاع الثقافي والإبداعي يمثل 6.1% من الاقتصاد العالمي بقيمة 4.3 تريليون دولار سنوياً. وفي الولايات المتحدة وحدها، ساهمت الأنشطة الفنية والثقافية بنسبة 4.2% من الناتج المحلي في عام 2023، بقيمة بلغت 1.17 تريليون دولار، وهو معدل نمو يفوق ضعف معدل نمو الاقتصاد الأمريكي العام. أما ولاية كاليفورنيا فتُعد مثالًا ساطعًا، إذ يوظف قطاعها الإبداعي أكثر من 5.2 مليون شخص ويساهم بأكثر من 1.1 تريليون دولار في القيمة المضافة.
كوريا الجنوبية خير دليل على قوة هذا النموذج؛ فقد تحولت من دولة فقيرة في الستينيات إلى قوة عالمية من خلال الاستثمار في الثقافة والإبداع. موجة “الهاليو” الكورية في الموسيقى والأفلام والمسلسلات والألعاب الإلكترونية حققت مليارات الدولارات ورفعت مكانة كوريا عالميًا. أيرلندا بدورها حوّلت تراثها الثقافي إلى مشروع اقتصادي من خلال “الطريق الأطلسي البري”، فيما صنعت الهند من “بوليوود” منظومة اقتصادية متكاملة توظف ملايين الأشخاص وتصدر محتواها الثقافي إلى كل القارات.
وهنا يطرح السؤال نفسه: أين السودان من هذه المعادلة؟ إن السودان، بتنوعه الثقافي الفريد وتراثه الحضاري العريق، يمتلك كل المقومات لبناء اقتصاد إبداعي قوي. فقد شهدت الخرطوم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي نهضة فنية كبرى، حين كانت أصوات محمد وردي ومحمد الأمين وعثمان حسين تملأ الأثير، وكانت المسارح والإذاعة منارات ثقافية تتجاوز حدود السودان إلى العالم العربي وأفريقيا. لكن هذا الازدهار تراجع بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية، فهاجرت المواهب وضاقت المساحات الإبداعية.
من الموسيقى السودانية بإيقاعاتها الممتدة من الشمال الصوفي إلى الجنوب الأفريقي، مرورًا بالحرف التقليدية والفنون التشكيلية والأدب الشعبي والحكايات الشفهية، يملك السودان منجمًا ثقافيًا لم يُستثمر بعد.
إن تحويل هذا الثراء إلى محرك اقتصادي فعال يتطلب رؤية استراتيجية واضحة وخطة عمل مدروسة. من أبرز خطواتها: • إنشاء مراكز متخصصة للإبداع والابتكار في المدن الكبرى. • دعم الفنانين والمبدعين الشباب ببرامج تمويل وتدريب حديثة. • تطوير البنية التحتية الرقمية لتسويق المحتوى الثقافي السوداني عالميًا. • الاستثمار في التعليم الفني والثقافي المتطور. • تنظيم مهرجانات دولية متميزة تضع السودان على خريطة السياحة الثقافية.
إن الاقتصاد الإبداعي ليس مجرد بديل للاقتصاد التقليدي القائم على الموارد الطبيعية، بل هو نموذج تنموي شامل يحقق النمو الاقتصادي المستدام، ويعزز التماسك الاجتماعي، ويكرس الهوية الثقافية الأصيلة. وللسودان، الذي يقف على مفترق طرق تاريخي، فرصة ذهبية ليكون رائدًا في هذا المجال على مستوى أفريقيا والعالم العربي.
لقد آن الأوان لتحويل أصوات البنادق إلى أنغام الكمنجات، ودخان المعارك إلى عبق الإبداع، فالثروة الحقيقية ليست فقط في باطن الأرض، بل في أعماق الروح الإنسانية، حيث يولد الإبداع ليبني مستقبلًا مشرقًا وهوية لا تُمحى .
[email protected]
مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone
|
|