مليونا مسيحي بين الجوع والاضطهاد: مسؤولية الدولة وسقوط أخلاقيات الحكم في السودان كتبه خالد كودي


مليونا مسيحي بين الجوع والاضطهاد: مسؤولية الدولة وسقوط أخلاقيات الحكم في السودان كتبه خالد كودي


09-19-2025, 04:49 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1758253772&rn=0


Post: #1
Title: 
مليونا مسيحي بين الجوع والاضطهاد: مسؤولية الدولة وسقوط أخلاقيات الحكم في السودان كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 09-19-2025, 04:49 AM

04:49 AM September, 18 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر





18/9/2025 ، بوسطن

مقدمة: اضطهاد ديني ممنهج بصمت سياسي فاضح
أمام أنظار العالم، ومن خلف خطابات وطنية جوفاء، يتعرض ما لا يقل عن مليوني مسيحي في السودان لواحدة من أشرس حملات الاضطهاد الديني والعنصري في تاريخ البلاد الحديث، في ظل الحرب الجارية بين الجيش وقوات الدعم السريع/تاسيس. ووفقاً للتقارير التي نشرتها قناة
CBN
الأمريكية في 17 سبتمبر 2025، فإن ما لا يقل عن مليوني مسيحي سوداني يتعرضون لاضطهاد ممنهج، يجمع بين التجويع، التهجير القسري، والانتهاك الصريح للحريات الدينية، وهذا الامر يجب ان يواجه بحزم.
وأكد التقرير أن أكثر من 15,000 مسيحي قد لقوا حتفهم منذ اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، بينما أُجبر الآلاف على ترك ديارهم ومعتقداتهم تحت ضغط المجاعة والتهديد المباشر من سلطات الأمر الواقع، خصوصاً في مناطق سيطرة الجيش والسلطات المرتبطة بالحكومة في بور سودان.
التقرير كشف عن هدم كنائس، واعتقال أفراد من المجتمع المسيحي دون توجيه تهم واضحة، مع مطالبتهم بدفع غرامات مالية مقابل إطلاق سراحهم. كما أشار إلى أن سلطات بورتسودان تمارس حرماناً ممنهجاً للمسيحيين من المساعدات الإنسانية، حيث يُخيرون بين ترك دينهم أو مواجهة الجوع. في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ ممارسات القهر الديني في التاريخ، يُستخدم الجوع كسلاح، وتُختزل المواطنة في الولاء الديني، وهذا الامر ليس جديدا علي حكومات السودان المتعاقبة.
هذا كله يجري وسط غياب كامل لأي آلية وطنية أو دولية فعالة لحماية حقوق الأقليات، ووسط صمت مدوٍّ من القوى السياسية والدينية، والمنظمات الحقوقية التي ما تزال أسيرة خطاب الهيمنة، بل وأحياناً شريكة فيه عبر سكوتها المريب.

وقائع موثقة: الاضطهاد المزدوج للجسد والعقيدة
لم تعد هذه الممارسات مجرد تجاوزات فردية أو حالات معزولة، بل هي سياسات ممنهجة تمارسها سلطات قائمة، وتحظى بصمت – بل بتواطؤ – من نخب سياسية ودينية وإعلامية. لقد وصلت دولة الهيمنة، التي تأسست منذ انقلاب الإنقاذ في 1989، إلى ذروتها في نزع الإنسانية عن جزء أصيل من مواطني البلاد، فقط لأنهم مسيحيون، أو لأنهم من الهامش الإثني والجغرافي للسودان.

الدستور، والسلطة، ومأزق الشرعية بين مشروع القهر في بورتسودان وميثاق التحرر في "تأسيس":
وفقاً للوقائع الميدانية والتقارير الدولية، فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية والجنائية عن الانتهاكات الممنهجة ضد المسيحيين السودانيين تقع في المقام الأول على عاتق السلطة الفعلية في بورتسودان، والتي تُهيمن عليها نخب إسلامية–عسكرية، لانها تقع في مناطق سيطرتها، وبمثل هكذا مواقف تكون قد أعادت إنتاج دولة الإنقاذ بكل أدواتها وخطابها وبُناها العميقة. هذه السلطة، التي تحكم المناطق الخاضعة للجيش، تتحكم بكلٍ من السلطتين التنفيذية والتشريعية عبر لجان أمنية عسكرية وشخصيات إسلامية نافذة، دون أي تفويض شعبي أو دستوري حقيقي، وهي تُمارس سلطاتها باسم وثيقة دستورية مختلة، لا تعترف بالتعدد، ولا تضمن الحقوق، ولا تُلزم الدولة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع المواطنين.
الوثيقة الدستورية التي تُشرعن لحكومة بورتسودان – والتي وُلدت من رحم التفاوض مع العسكر والنخب الإسلامية بعد انقلاب 2021 – ثم عدلت بواسطة البرهان واجهزته العدلية تفتقر إلى أي مضمون فوق دستوري يحمي حرية الضمير أو يكرّس مبدأ العلمانية والمواطنة أو يجرّم التمييز الديني. على العكس، فإن هذه الوثيقة تُعيد إنتاج منطق "الدين الرسمي" و"الهوية الأحادية"، بما يتيح للسلطات ممارسة القهر باسم الدين، ويمنحها غطاءً قانونياً للاستمرار في سياسات التطهير الرمزي والفعلي ضد غير المسلمين وغير العرب، لا سيما في أحياء الخرطوم المهمشة ومناطق سيطرة الجيش.
في المقابل، يأتي ميثاق تأسيس والدستور الانتقالي لتحالف "تأسيس للسلام والوحدة" بوصفه نقطة تحول جذرية، إذ ينص بوضوح على:
- علمانية الدولة وفصل الدين عن التشريع...الخ...
- حظر التمييز الديني أو العرقي أو الجهوي
- الالتزام بحرية المعتقد والضمير
- الاعتراف بالمواطنة المتساوية كأساس وحيد للحقوق والواجبات
بل أكثر من ذلك، يؤكد الميثاق أن الدولة الجديدة يجب أن تُبنى على أنقاض الدولة القديمة، لا عبر ترقيعها أو استيعابها، مما يعني أن أي صمت تجاه جرائم بورتسودان هو خيانة لهذا المشروع التأسيسي ذاته.
وعليه، فإن حكومة "تأسيس"، بوصفها السلطة السياسية الوحيدة التي طرحت نفسها بديلاً عن دولة الهيمنة، تتحمل مسؤولية مباشرة في الإعلان، والمحاسبة، والتحرك. فلا معنى لأي ميثاق لا يُمارس، ولا وزن لأي دستور لا يُترجم إلى مواقف واضحة ضد الجريمة.
الصمت هنا ليس فقط خذلاناً للمضطهدين، بل تواطؤاً ضمنياً مع مشروع بورتسودان الإسلامي، الذي يواصل، باسم القانون والدين، سحق ملايين السودانيين لأنهم ببساطة ليسوا من "الأغلبية المُفترضة".

مقارنة مهمة: دور العبادة في الأراضي المحررة:
في المقابل، تشير تقارير موثوقة وشهادات حية من الأراضي المحررة الخاضعة للسلطة المدنية للسودان الجديد (خاصة في جبال النوبة والفونج الجديد/النيل الازرق)، إلى أن دور العبادة المسيحية وغيرها تمارس أنشطتها بحرية، وتُبنى الدور أيا كانت دون عوائق، ويُحترم حق الأفراد في اختيار دينهم وممارسة طقوسهم كما يرون.
هذا المشهد لا يعكس فقط تطبيقاً عملياً لعلمانية الدولة القادمة، بل يقدم نموذجاً مضاداً لدولة المركز، حيث ظل الدين يُستخدم كأداة قمع، بينما في المناطق "المحررة" يصبح الدين حرية فردية، لا سلاحاً سلطوياً. إن حماية دور العبادة في الأراضي المحررة، وتمكين الجميع من أداء طقوسهم بحرية، هو إعلان بأن مشروع "السودان الجديد" ليس شعاراً، بل ممارسة ملموسة.

إدانة سياسية وأخلاقية لحكومة بورتسودان: استمرارية ممنهجة لميراث الإقصاء:
لا يمكن فصل الجرائم الموثقة ضد المسيحيين عن البنية العميقة للاستعلاء الديني والعنصري التي تأسست عليها الدولة السودانية منذ الاستقلال، وبلغت أقصى تجلياتها خلال عهد الإنقاذ. واليوم، تُجسد حكومة بورتسودان هذا الإرث القمعي بوجه جديد، لكنها تحتفظ بجوهره القديم: التمييز، الإقصاء، وتديين مؤسسات الدولة.
إن ما تقوم به هذه السلطة من هدم الكنائس، ومطاردة المسيحيين، وحرمانهم من الإغاثة، لا يمكن قراءته إلا بوصفه امتداداً مباشراً لمشروع الدولة الإسلامية التي تُقصي من لا يشبهها، وتُعادي من لا يخضع لها. بل إنها تجاوزت الإنقاذ نفسها، حين استخدمت الحرب كفرصة لتصفية التعدد الديني، وشرعنة خطاب الكراهية داخل مؤسساتها.
وفي لحظة إنسانية فارقة، لا تمارس هذه السلطة فقط انتهاك الحقوق، بل إبادة رمزية ممنهجة لوجود المسيحيين والمهمشين، في صمت دولي وإقليمي مخزٍ، وتواطؤ داخلي يُسجّل على النخب التي لم تجرؤ على المواجهة.
إن لم تتم محاسبة هذه الحكومة، ومساءلة بنيتها التشريعية والتنفيذية، فإن ما نشهده اليوم سيُصبح وصمة لا تُمحى من تاريخ السودان، وشهادة على انهيار كامل لفكرة الوطن والمواطنة.

ما المطلوب فوراً من حكومة "تأسيس" وسلطة بورتسودان؟
في ظل ما كشفته التقارير الدولية، وآخرها تقرير قناة
CBN
الأمريكية، من انتهاكات وحشية ضد المسيحيين في السودان، فإن السكوت لم يعد مقبولاً، والمواقف الرمادية لم تعد تصلح في وجه جرائم تُرتكب أمام الملأ.
أولاً: ما هو مطلوب من حكومة "تأسيس للسلام والوحدة" فوراً؟
١/ إصدار بيان رسمي يدين بشكل قاطع ما ورد في تقرير
CBN
والتقارير الحقوقية الأخرى، ويعلن رفضه الصريح لكل أشكال التمييز الديني والانتهاكات ضد المسيحيين.
٢/ تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة ذات طابع دولي، تضم خبراء من منظمات حقوق الإنسان، لحصر وتوثيق كل جرائم هدم الكنائس وتجريف منازل المسيحيين وحرمانهم من المساعدات، وتقديم تقرير علني بنتائج التحقيق.
٣/ دعوة المنظمات الأممية والحقوقية الدولية لزيارة الأراضي المحررة، ومراقبة حرية العبادة ومقارنة ذلك بالانتهاكات في مناطق سيطرة حكومة بورتسودان، لإثبات الفرق بين مشروع السودان الجديد ومشروع الهيمنة القائم.
٤/ مخاطبة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي بشكل رسمي لتقديم ملف انتهاك الحريات الدينية في السودان إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتفعيل آلية التحقيق الدولي.
٥/ تحريك ملف قضائي دولي ضد حكومة بورتسودان، يشمل شخصيات أمنية وسياسية متورطة في هدم الكنائس، وحرمان المواطنين من المساعدات على أساس ديني، وارتكاب جرائم كراهية وتمييز عنصري

ثانياً: ما هو مطلوب، وبشكل عاجل، من سلطة بورتسودان:٬
نقولها بوضوح: إن السلطة القائمة في بورتسودان مسؤولة سياسياً وقانونياً وأخلاقياً عن الانتهاكات الجارية في المناطق التي تسيطر عليها. ويجب أن تُخاطب بالآتي:
- توقفوا فوراً عن مطاردة المسيحيين السودانيين، سواء بتهمة "العمالة"، أو "الولاء المشبوه"، أو بناءً على انتمائهم الديني، الاثني والجهوي. كفى ترويعاً لمواطنين يعيشون في وطنهم.
- كفوا عن استخدام ما تُسمى بقوانين "الوجوه الغريبة"، التي لا تعدو أن تكون أدوات عنصرية قبيحة لتجريم السودانيين من غير العرب وغير المسلمين. إن استمرار تطبيق هذه القوانين يُعد وصمة على جبين الدولة، وجريمة مكتملة الأركان في القانون الدولي.
- أوقفوا هدم الكنائس فوراً. لا شرعية لأي دولة تهدم بيت صلاة لمجرد أن أصحابه لا يتبعون دين الأغلبية. هذه ليست دولة، بل آلة اضطهاد طائفي.
- أوقفوا تجريف منازل المسيحيين في أطراف الخرطوم وبقية المدن الشمالية. هذه الممارسات ليست قرارات تنظيمية، بل تطهير عرقي تدريجي يجب أن يُدان ويُحاسب عليه.
- افتحوا تحقيقاً محايداً ومستقلاً في كافة القرارات التي طالت دور العبادة، وسكناً للمسيحيين، وتعهدوا بعدم تكرارها، مع محاسبة المتورطين من المسؤولين.

إن ما يجري اليوم هو امتحان أخلاقي وسياسي للسلطة في بورتسودان ولكل سوداني ولحكومة "تأسيس" في آنٍ واحد. فإما أن نقف مع الإنسانية والكرامة والمواطنة، أو نواصل الانحدار نحو دولة فصل ديني–اثني لا يمكن أن تُبنى عليها أمة.
صمتكم اليوم يعني تواطؤكم، ومحاسبتكم غداً ستكون بحجم هذا الصمت.

اخيرا: لا سلام دون عدالة، ولا عدالة دون مساءلة:
ليست هذه المأساة أزمة مسيحيين فقط، بل أزمة أخلاق الدولة السودانية، والاختبار الحقيقي لأي مشروع بديل.
إن معركة السودان القادمة ليست معركة ضد الاستبداد وحسب، بل معركة من أجل دولة تحتفي بتعددها، وتحمي ضمير كل فرد فيها، دون وصاية، ولا تمييز، ولا خوف.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والاليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)