Post: #1
Title: جنوب السودان.. على مذبح النفط والأبنوس كتبه محمد بدوي مصطفى
Author: محمد بدوي مصطفى
Date: 09-18-2025, 12:39 PM
12:39 PM September, 18 2025 سودانيز اون لاين محمد بدوي مصطفى -Germany مكتبتى رابط مختصر
جنوب السودان.. على مذبح النفط والأبنوس
وطنٌ يُباع وأحلام تُنهب على هامش الأرواح
تقرير أممي: ثروات جنوب السودان تتحوّل إلى لعنة في ظل الفساد والانقسام
محمد بدوي مصطفى
"هناك، في تلك الأرض التي خرجت لتوّها من رحم الاستقلال، يتدفّق النفط كدمٍ في العروق، ولكنه لا يسقي جائعًا، ولا يبني مدرسةً أو مستشفى. كان الحلم أن يولد فجر جديد، يحمل معه الأمل والتجدد، لكن ما وُلد كان جوعًا وعطشًا، وموتًا وتشردًا، وليلًا دامسًا بلا أفق."
توطئة:
يا سادتي الكرام وفي سياق هذا المقال وقبل أن ندخل في لبّ الموضوع أودّ أن أعود إلى جرح غائر في ضمير كل سودانيّ وسودانية: انفصال البلد الأم. فحين أُعلن استقلال جنوب السودان في شهر يوليو من عام 2011، اهتزّت الخرطوم أيما اهتزاز وارتجفت جوبا على كل جنباتها، وارتجّت الأرض تحت قلوب السودانيين شمالًا وجنوبًا. إذ كان المشهد أشبه بعملية بترٍ موجعة في جسد واحد، انشطر إلى نصفين. السودان، عملاق إفريقيا الذي كان يومًا يتكئ على نيلين عظيمين ويضم فسيفساء من الأعراق والثقافات، تراجع فجأة أمام الخرائط الجديدة، فانكمش قلبه وتبعثرت أطرافه وصار بلاد للتناحر والحروب القبلية فهل خدم الانفصال هدفًا ما؟ وهذا هو بيت القصيد الذي نتتبع من خلال أطيافه وأطرافه مقاصد الانفصال الأساسية.
بينما كان العالم يحتفل بولادة دولة جديدة، تفجر الألم بين ضلوع الملايين، في الشمال، جرح الفقدان، وفي الجنوب، قلق البداية. لقد انقسم الوطن، لكن لم ينقسم الحزن: تمدّد على ضفتي النيل معًا، ليُذكّر الجميع أن الحدود السياسية قد تُرسم بخطوط على الورق، لكنّ الدم والذاكرة لا تُقسّمان.
تقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان
في تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية (لوموند أفريك) بدا كصرخة في صمت العالم، أطلقت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنوب السودان في 16 سبتمبر 2025 إدانة غير مسبوقة للنخب الحاكمة، متهمة إياها بالانغماس في "نهبٍ منظّم للأمة". وجاءت كلمات التقرير حادة كطعنات خنجر كالتالي: "افتراس جشع"، "منافسة عنيفة"، و"إهمال متعمّد للأجيال الحاضرة والمستقبلية".
يا سادتي ذاك البلد الوليد، الذي استقل قبل أربعة عشر عامًا فقط، بات أسير حفنة من المتنفذين الذين جعلوا من النفط ـ عصب الاقتصاد ومصدر 90% من الدخل الوطني ـ أداة للثراء الغير مشروع وللهيمنة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، بدلا أن يكون دعامةً للبناء والتنمية والرخاء.
الأرقام تكشف الفاجعة
حسب المصدر المذكور أعلاه، فقد بلغت عائدات جنوب السودان من النفط (فقط) بين عامي 2011 و2024، 25,2 مليار دولار: 23 مليار من تصدير النفط، و2,2 مليار من قروض مرهونة به. غير أن هذا السيل العرمرم من مال طاغوت لم يتحوّل بكل أسف إلى مدارس أو مستشفيات، بل تبخّر في صفقات مشبوهة وحسابات سرية في أرض الله الواسعة، فيما ظلّت الميزانية السنوية للدولة لا تتجاوز مليار دولار. وما هي النتيجة يا سادتي المتوقعة لاستهتار كهذا بالمال العام: شعب يقدّر بـ13,4 مليون نسمة، بينهم 9,3 ملايين ـ أي ما يقارب 70% ـ يقفون اليوم في طوابير الفقر والمرض، يقتاتون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة فهل يعقل هذا يا إخوتي.
منظومة فساد متكاملة
والجدير بالذكر في هذا السياق أن التقرير لم يتردّد التقرير في تسمية مسؤولين بعينهم، وفي مقدّمتهم بنيامين بول ميل، النائب الثاني للرئيس، كأحد أبرز المستفيدين من شبكات النهب. لكنه أوضح أن القضية لم تعد مرتبطة بأفراد، بل تحوّلت إلى نظام قائم بذاته، يستخدم العنف والتهميش لإدامة الفساد، ويحوّل الدولة إلى غنيمة تتنازعها القوى النافذة، فهل صار الجنوب بليرمو ومافيا أفريقيا كما هي الحال في جنوب إيطاليا.
مستقبل على حافة الهاوية
بعد أكثر من عقد على الاستقلال، يقف جنوب السودان اليوم عند مفترق خطير: إما أن تُكبح شهية النخب وتُستعاد الثروات إلى مسارها الطبيعي، أو يستمر الوطن في النزيف حتى آخر قطرة. لقد جاء تقرير الأمم المتحدة بمثابة مرآة دامية، تعكس كيف تحوّل حلم الحرية إلى كابوس الجوع، وكيف اغتالت حفنة من المتسلقين حاضر البلاد ومستقبله، تاركة الملايين بين فقر مدقع وأمل ضائع، غريبيّ الهوية في وطنهم الذي تملأه خيرات الله، فضلًا عن الماء والغابات والمحميات التي لم تؤهل إلى الآن ولو كان لأهل الجنوب وجيع لرأوا بلادهم تقفز في ليلة وضحاها كما فعلت رواندا وغيرها من الدول النامية والفقيرة.
خاتمة:
في الختام، يُظهر مثال جنوب السودان كيف يمكن للثروات الطبيعية أن تتحول إلى لعنة إذا سادتها سياسات الفساد والجشع. كما في حالات تاريخية أخرى، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، حينما تتحكم النخب الفاسدة في ثروات الأمة، يصبح الشعب ضحية لهذه السياسات، ويُترك في حالة من الفقر والتخلف رغم الموارد الوفيرة. إن الدرس الأبرز هو أن بناء دولة مؤسساتية عادلة وقوية هو السبيل الوحيد لتحويل الثروات إلى مصدر للرخاء والتنمية، بدلاً من أن تكون أداة للخراب والتقسيم.
|
|