Post: #1
Title: الهروب الكبير من الزنوجة: الدكتور عبدالله علي إبراهيم والبحث عن فيزا عاجلة للعروبة.. كتبه عبدالغني
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 09-17-2025, 02:10 AM
02:10 AM September, 16 2025 سودانيز اون لاين عبدالغني بريش فيوف -USA مكتبتى رابط مختصر
في متاهة الهوية السودانية الشائكة، حيث تتلاطم أمواج التاريخ والجغرافيا والإثنيات، يبرز اسم الدكتور عبدالله علي إبراهيم كمنارة لا تخبو، لا لتهدي الحيارى إلى بر الأمان، بل ربما لتدفعهم أعمق في خضم الجدال، لطالما أتحفنا بمقالاته وكتاباته، مثيرا النقاشات، مساهما بفاعلية في تأزيم ما هو متأزم أصلا، حول هوية هذا الوطن المعقّد. وفي خضم كل هذا، يصرّ الدكتور عبدالله، بكل ما أوتي من بأس الكلمة، على أن السودان عربي وأن أهل السودان عرب، في محاولة بليغة لا تنفك عن إثارة الدهشة، خاصة حينما يتأمل المرء في تناقضات هذه الدعوى، التي لا تجد ما يسندها في ملامح السودانيين ولا في تاريخهم المتعدد، سوى لغة الضاد التي تجمعهم. إن مقال الدكتور، تحت عنوان (عرب السودان خالي دسم عربي)، ليس إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المحاولات الدؤوبة لقولبة الواقع السوداني في قالب عربي صرف، على الرغم من أن هذا القالب يتسرب منه كل ما هو سوداني أصيل، غير عربي، كما يتسرب الماء من إناء مثقوب، حيث أن الدكتور عبدالله علي إبراهيم، ويا لسخرية القدر، يبدو وكأنه يهرول مسرعا نحو عُروبة لا تشبهه، عُروبة لا تجد فيه سوى لغتها، تاركا خلفه إرثا غنيا من التنوع الأفريقي الذي لا يمكن إنكاره، ويُشبه، في هذا الجري، الهروب الكبير من الزنوجة: د. عبدالله علي إبراهيم يبحث عن فيزا عاجلة للعروبة، عنوانا اخترناه لمقالنا هذا، لا انتقاصا من شخصه، وحاشا لله، بل وصفا دقيقا للمفارقة التي تتجلى في خطابه. مفارقة (خالي الدسم): تجفيف الهوية أم ترسيمها؟ يبدأ الدكتور عبدالله علي إبراهيم مقاله باستعراض وجهة نظر الحداثيين في السودان الذين يبخسون الهوية العربية وأثرها الثقافي، مستشهدا بالأكاديمي التونسي عبدالحميد هنوم ومفهوم شناف، والشناف، كما يفسره الدكتور، هو الاعتراض بترفع، أي الانتقاد المتعالي، وهنا تكمن المفارقة الأولى، ففي الوقت الذي ينتقد فيه الدكتور إبراهيم شناف الحداثيين لأصالة هويتهم، نجده يمارس شناف من نوع آخر، وهو شناف العروبة التي تدّعي الأصالة وتستعلي بها على كل ما عداها، مبخسا بذلك التنوع الثقافي والإثني الذي يزخر به السودان. يُقدم الدكتور إبراهيم عرضا مطوّلا لوجهة نظر الكاتب محمد أبوالقاسم حاج حمد، الذي يرى أن العروبة في السودان حديثة العهد، تعود إلى مملكة الفونج في عام 1505، وأنها هامشية مقارنة بمراكز العروبة والإسلام الأصيلة. وقد خلص حاج حمد إلى أن هذه العروبة الهامشية أنتجت ثقافة شفاهية لا حضارية لا تملك سوى كتاب طبقات ود ضيف الله، وهو ما وصفه حاج حمد بكلام فارغ وعزة فارغة، مؤكدا أن الشماليين مزيج من العرب وشعب النوبة والبجا الأفريقيين التاريخيين، وأن ادعاءهم النسب للعباس متوهم وتفسده دراسة التاريخ والأنثروبولوجيا، ضاربا لذلك مثالا بفطسة الأنف التي تميز الكثير من أهل السودان، والغاية من تبخيس حاج حمد هذا، كما يرى الدكتور إبراهيم، هي سبيل للتفاوض مع الجنوبيين لصيغة جامعة في جدليته للوحدة السودانية، أي تقليل دسم العروبة لتعزيز الوحدة. هنا يتدخل الدكتور إبراهيم لينتقد عوار نهج الحاج حمد في هضم عزة عرب السودان بهويتهم، وهو نقد يثير الكثير من التساؤلات المشروعة، فالدكتور إبراهيم يرى أن علم الإثنوغرافيا لا يكذب الناس في دعواهم بهوية، بل يجلي كيف أدرك هؤلاء الرواة هذه العوالم وكيف استنطقوها ما شاؤوا. ويؤكد على أن عالم الإثنوغرافيا ليس غرضه مساءلة ومغالطة الحقائق التي قامت عليها هوية الجماعة، ولا صرف المبادئ التي اهتدوا بها كضلالات. ولكن، خلونا يا جماعة، نتوقف لحظة عند هذا المنعطف الحرج، لنتساءل: ألا يمارس الدكتور إبراهيم، بلهفته البادية على إثبات العروبة الخالصة، نوعا من مساءلة ومغالطة الحقائق التي قامت عليها هوية السودان المتنوعة؟ ألا يصرف مبادئ التنوع كضلالات، حين يرفع لواء العروبة وحدها فوق كل الرايات؟ إن رفضه لخالي دسم العروبة الذي يقترحه حاج حمد، إنما هو إصرار على عروبة دسمة لا تتسع لغيرها، عروبة يضطر فيها أهل السودان إلى إنكار جزء أصيل من ذواتهم ليُرضوا قناعة لم تثبتها الجغرافيا ولا التاريخ بمفرداتها النقية. عزيزي القارئ.. إن أشد ما يثير السخرية المريرة في خطاب الدكتور عبدالله علي إبراهيم، هو موقفه من حجة فطسة الأنف التي استعان بها حاج حمد لتفنيد دعاوى النسب العباسي الخالص، ففي الوقت الذي ينتقد فيه الدكتور إبراهيم هذا التبخيس والعزة الجوفاء التي يتهم بها حاج حمد عرب السودان، نجده وكأنه يتجاهل تماما أن وصف الزنجي، الذي نضعه عنوانا، يمثل تحديا مباشرا للنموذج العرقي الذي يتخيله البعض في الوسط والشمال النيلي، للهوية العربية الخالصة، إذ كيف يمكن للدكتور عبدالله أن ينتقد استخدام الملامح الجسدية (فطسة الأنف) كمعيار لإنكار العروبة، بينما هو ذاته، لا يتطابق مع الصور النمطية لتلك العروبة التي يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة؟ وأنا لهم النسبة للعباس وأنت ترى أنف الواحد منهم أفطس؟ محمد أبوالقاسم حاج حمد، بحسب عرض الدكتور إبراهيم هذا التساؤل البسيط، الذي نقله الدكتور إبراهيم عن حاج حمد، يحمل في طياته قدرا لا يُستهان به من الاستفزاز، لكنه في الوقت ذاته، يعكس أزمة عميقة في تعريف الهوية السودانية، إذ أنه إذا كانت الملامح الجسدية، سواء كانت فطسة الأنف أو لون البشرة الداكن، تُستخدم لإنكار انتماء مجموعة لهوية معينة، فإن هذا يضعنا أمام سؤال محوري: ما هي المعايير الحقيقية التي يعتمد عليها الدكتور إبراهيم في بناء هويته العربية للسودان؟ هل هي اللغة وحدها، أم هي الرغبة في الانتماء، حتى لو كانت هذه الرغبة تصطدم بالحقائق الأنثروبولوجية والتاريخية التي يرفض هو، في سياق آخر، أن يغالي فيها حاج حمد؟ إن المفارقة الصارخة تكمن في أن الدكتور إبراهيم، في دفاعه المستميت عن عروبة قد لا تتوافق مع التنوع الإثني والملامح الجسدية لـــ98% من السودانيين، يقع في فخ مشابِه لما انتقده في حجج حاج حمد، فإذا كانت فطسة الأنف لا تنفي العروبة، فلماذا الإصرار على عروبة خالصة لا تستوعب التنوع النوبي والبجاوي وولخ، الذي أشار إليه حاج حمد صراحة؟ أليست هذه العزة التي يدافع عنها الدكتور إبراهيم هي نفسها عزة فارغة إذا كانت تتجاهل واقع التداخل الثقافي والإثني الذي يشكل نسيج السودان؟ يتصدى الدكتور إبراهيم لحجج حاج حمد حول ضعة شأننا إسلاميا وعربيا وثقافتنا الشفاهية اللا حضارية التي لا تملك سوى كتاب طبقات ود ضيف الله، مؤكدا أن الشفاهية والكتابة متعادلتان في نظر الاختصاصيين، مستشهدا بروبرت أونق ونظريته في الشفاهية والكتابية، ويحاجج الدكتور بأن الشفاهية تمجد الذاكرة وتؤثر في تشكيل هوية أهلها ووعيهم، وهو دفاع رصين عن قيمة التراث الشفاهي، ولكن، عندما يدافع الدكتور إبراهيم عن طبقات ود ضيف الله تحديدا، ويرفض تهوين حاج حمد له بسبب غلبة كرامات الأولياء فيه، والتي يراها الحداثيون أضغاثا وخرافات، فإنه يدخل في منطقة تتطلب مزيدا من التدقيق، فهو يعرج على أمثلة من الكنيسة الكاثوليكية، التي ما زالت تحتفي بالكرامات والمعجزات، مستشهدا بترسيم كارلو أكوتيس قديسا بعد ثبوت كرامات له، وكأنما يقول: إذا كانت الكنيسة الكاثوليكية الحديثة لا تزال تؤمن بالكرامات، فلماذا يصر حداثيو السودان على تخريف تراثنا المليء بها؟ هذا القياس، وإن كان يبدو ظاهريا دفاعا عن التراث الروحي، إلا أنه يحمل في طياته تناقضا خفيا في سياق الدعوة لعروبة خالصة، إذ هل تتوافق الكرامات والأولياء، وهي جزء أصيل من التصوف السوداني، مع الصورة النمطية للعرب التي يسعى الدكتور إبراهيم لترسيخها، أم أن هذه الكرامات هي جزء من ذلك الدسم السوداني الذي لا ينسجم مع عروبة خالية من الدسم يريدها البعض؟ إن الدفاع عن طبقات ود ضيف الله ككتاب يمثل هوية ثقافية سودانية لا غبار عليها، ولكنه في نفس الوقت، يمثل تراثا روحيا شديد الخصوصية، متأثرا بعمق بالبيئة الأفريقية الصوفية، إذ أنه إذا كانت العروبة في السودان، كما يقترح الدكتور إبراهيم، يجب أن تكون دسمة وكاملة، فهل ستشمل دسم الكرامات والأولياء التي قد لا تروق للكثيرين من الذين يطمحون لعروبة متحضرة وعقلانية على النمط الشرقي؟ ألا يقود هذا إلى انتقاء داخل التراث نفسه، ليصبح دسما مقبولًا ودسما مرفوضا، بحسب المعيار الذي يُراد فرضه؟ ينتقل الدكتور إبراهيم مرة أخرى إلى نقد الحداثيين الذين خرجوا من معطف الاستعمار، والذين تبنوا الحداثة كهدية من الغرب، ولم يعد لتقاليدهم، التي هي عندهم صنو التخلف والجمود، نفع يرتجى، وهو نقد حاد ومرير، ويلامس جرحا حقيقيا في كثير من المجتمعات التي عانت من الاستعمار، ولكن ألا يمارس الدكتور إبراهيم نفسه نوعا من الحداثة العنيفة في رؤيته للهوية السودانية، فإصراره على عروبة لا تشبه الجميع، ومحاولته صياغة هوية خالصة في بلد بطبيعته المتمازجة، ألا يُعدّ ذلك تبنيا لنموذج هوياتي خارجي (عربي بحت) على حساب التقاليد السودانية الأصيلة متعددة الأوجه؟ فما بقي لهذه الصفوة الحداثيين أن تعمله بها التقاليد سوى إشانة سمعتها. الدكتور عبدالله علي إبراهيم، نقلا عن هنوم إذا كان الحداثيون يشينون سمعة تقاليدهم، فهل الدكتور إبراهيم، بتركيزه على بعد واحد من أبعاد الهوية السودانية (وهو البعد العربي)، لا يشين سمعة الأبعاد الأخرى؟ هل إقصاء التنوع الأفريقي والنوبي والبجاوي، أو وضعه في مرتبة أدنى، أو دمجه قسرا تحت راية العروبة، لا يعدّ شكلا من أشكال شناف الهوية التي لا تتوافق مع رؤيته؟ إن شناف الدكتور إبراهيم ليس لتقاليد عربية، بل لتقاليد سودانية واسعة النطاق لا تنحصر في نطاق واحد. إن هذا الإصرار على العروبة قد أصبح في الخطاب السياسي والاجتماعي السوداني أداة للإقصاء والتهميش، بل أداة لتبرير الصراعات الدامية التي يشهدها السودان اليوم، فهل يمكننا أن نتحدث عن وحدة وطنية حقيقية حين يصرّ جزء من النخبة على هوية دسمة لغوية وعرقية، بينما تصر بقية المكونات على حقها في الاعتراف بهوياتها المتفردة؟ إن أزمة السودان لا تكمن في قلة الدسم العربي في هويته، بل في الإصرار على أن هذا الدسم هو المكون الوحيد أو الأوحد للهوية الوطنية، لأن السودان، بتاريخه العريق الممتد إلى آلاف السنين، هو بوتقة انصهرت فيها ثقافات وحضارات أفريقية قديمة، ونوبية، وبجاوية، وعربية، وإسلامية، ومسيحية. هو مزيج فريد لا يمكن اختزاله في هوية واحدة، مهما كانت عظمته. إن محاولات الدكتور عبدالله علي إبراهيم، وغيره من الذين يسيرون على دربه، في قولبة الهوية السودانية في قالب عربي أحادي، هي محاولات تسيء إلى التعقيد والجمال الذي يتميز به هذا البلد، فالسودان ليس مجرد امتداد لأي هوية أخرى، بل هو كيان بذاته، له خصوصيته وتفرده، واللغة العربية، وإن كانت لغة رسمية ومكونا ثقافيا مهما، لا يمكن أن تكون بمثابة صك الغفران الذي يمحو كل ما عداها من روافد هوياتية. إن مقالات مثل التي يكتبها الدكتور إبراهيم، والتي تهدف، عن وعي أو غير وعي، إلى ترسيم حدود هوياتية ضيقة ومحددة، هي جزء لا يتجزأ من أسباب تأزم الوضع في السودان، إذ أن الهوية ليست مسألة أكاديمية بحتة تُبحث في أروقة الجامعات أو صفحات المجلات الثقافية، بل هي قضية حياة أو موت بالنسبة للملايين، وعندما تُحرم مجموعة من حقها في الاعتراف بهويتها، أو تُوصف بأنها أقل دسما أو هامشية أو لا حضارية، فإن ذلك يولد بالضرورة شعورا بالظلم والتهميش، ويغذّي بذور الصراعات. في الختام، يمكن القول إن الدكتور عبدالله علي إبراهيم، في مسعاه الدؤوب لإثبات عروبة السودان الخالصة، يمثل مفارقة مثيرة للجدل، ففي الوقت الذي ينتقد فيه شناف الحداثيين وتبخيسهم لتقاليدهم، نجده يمارس شنافا خاصا به تجاه التنوع الهوياتي السوداني، مبخسا بذلك المكونات غير العربية، أو دمجها قسرا تحت مظلة العروبة التي لا تشبهها في كل أبعادها. إن السودان، بتاريخه وملامح أهله وتراثه الشفاهي والمكتوب، هو تجسيد حي لتلك المقولة التي ختم بها الدكتور إبراهيم مقالته، ولكنه يحتاج إلى إعادة توجيه: (أهل البكاء غفروا والجيران كفروا)، فالسودانيون الأصلاء، بكل تنوعهم، لا يزالوا يبكون على وطنهم، لكن جيران الخطاب الهوياتي المغالي في العروبة، لم يكفروا فقط بالتنوع، بل كفروا بللحمة الوطنية الحقيقية التي لا تقوم إلا على الاعتراف المتبادل والاحترام الكامل لكل مكوناتها. لقد آن الأوان لأن يتوقف هؤلاء الأدعياء، عن مطاردة سراب عروبة خالصة لا تشبهم بالإطلاق، وأن يتصالحوا مع الهوية السودانية المعقدة والغنية. هوية أفريقية الجذور، عربية اللسان في بعضها، إسلامية ومسيحية ومعتقداتية الروح، نوبية التاريخ، بجاوية الأصالة، متمازجة بامتياز. إنها عزة لا تحتاج إلى خالي دسم ولا إلى دسم زائد، بل إلى اعتراف بالواقع والتاريخ والتنوع، فالسودان سمفونية تتناغم فيها كل الآلات، وليست مونولوجا لآلة واحدة مهما علا صوتها، وإلا، سيظل الدكتور عبدالله علي إبراهيم، وغيره ممن يحملون ذات الرؤية، يركضون نحو عروبة لا تشبههم، تاركين خلفهم وطنا يتألم من جراء تكسير مراياه التي تعكس صورته الحقيقية والمتعددة.
|
|