Post: #1
Title: وداعاً غلام الدين. أثر باقٍ ورحيلٍ لا يُنس كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 09-09-2025, 02:56 AM
02:56 AM September, 08 2025 سودانيز اون لاين د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK مكتبتى رابط مختصر
الامين العام للصندوق القومي للأسكان والتعمير (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)
بقلوبٍ مكلومة، ودموعٍ محبوسة بين الجفن والقلب، أنعى إلى زملائي في الصندوق القومي للأسكان والتعمير وللشعب السوداني، وإلى كل من يعرف معنى أن يكون الإنسان خادماً لوطنه بإخلاص، رحيل الدكتور غلام الدين عثمان، الرجل الذي عاش عمره في خدمة الآخرين بالكلمة الطيبة، والابتسامة الصافية، والسعي الصادق.
بغضّ النظر عمّا إن كنا قد اختلفنا معه أو اتفقنا، فإن الحقيقة التي لا ينكرها منصف أنّ الفقيد كان قامةً من قامات هذا الوطن، ورمزاً من رموز العمل العام. لم يكن مجرد إداريٍّ أو خبيرٍ اقتصادي، بل كان قبل ذلك وبعده إنساناً، يعرف الناس بأسمائهم، يطرق أبواب قلوبهم في الشدائد، ويواسيهم في المصائب، ويؤانسهم في العسر كما في اليسر. كان حضورُه صلةً دافئةً لا تنقطع، وجسراً من المودّة ممتداً بين الأهل والأصدقاء. لم تفارقه البشاشة، ولم تُطفئ الأيام صوته الهادئ وابتسامته الصافية. وهكذا رحل كما عاش، رجلاً يصالح بين القلوب بالكلمة الطيبة، ويترك في كل لقاءٍ ظلّاً من إنسانيته لا يزول.
لم يكن معرفتي بالفقيد معرفة سماعٍ أو رواياتٍ من الآخرين، بل صارت علاقةً شخصية تشكّلت من موقفٍ خالد لا يُمحى من ذاكرتي. كان ذلك يوم أن كلفت بمهمة الأمين العام للصندوق القومي للإسكان والتعمير، حيث وجدت نفسي أفتش في ثنايا الملفات القديمة، أفتّش لا عن الأوراق وحدها، بل عن الأسرار التي صنعت تاريخ هذا الكيان. وكلما قلبت صفحةً وجدت أثراً حيّاً لاسمٍ واحد. (غلام الدين). كأن الصندوق قد نُسج على يديه، أو كأن تاريخه مكتوبٌ بمداد جهده. فقلت في نفسي، لا بد أن ألتقي هذا الرجل.
كان ذلك دافعاً لأن أتوجّه إلى داره في حي المهندسين بأمدرمان. طرقت الباب فاستقبلني ابنه بترحاب، ثم دخلت إلى الصالون حيث كان الدكتور جالساً بهدوء يشي بالوقار. نظر إليّ بعينين تتفحصان كل تفصيل من ملامحي، ثم سألني بصوتٍ هادئ ولكنه ممتلئ بالجدّية. من أنت؟وماذا تريد؟، أجبت بسكينةٍ تمتزج بالرهبة والاحترام. أنا الأمين العام الجديد للصندوق القوميللإسكان والتعمير. ابتسم ابتسامة خفيفة، تلك الابتسامة التي لم تحمل سوى صراحة الرجل وصدقه، ثم قال عبارته التي ستظل محفورةً في وجداني. وماذا تريد من الكوز؟
تأملت ملامحه حينها، ثم قلت له بصدق. يا دكتور، لم آتِ إليك لأحاكمك على ما يراه الناسمن انتماءاتٍ سياسية، ولا يهمني أن يقال. كوز، شيوعي، بعثي أو اتحادي. هذه كلها تسمياتضيّقة، وأنا لا أبحث عنها. جئت لسببٍ واحد: نحن أبناء وطنٍ واحد، وكلنا مسؤولون عنخدمته. لقد قرأت الملفات، فوجدت اسمك مرتبطاً بالصندوق في كل تفاصيله، فجئت أتعلممنك، وأستفيد من خبرتك، وأكشف ما التبس علينا من أسراره. قلت له بهدوء وصدق. لكناعلم علم اليقين، أن لك كامل الحرية أن تعطي أو تمنع ما تشاء. أما أنا فقد جئتُ إليك لسببواحد فقط، أن أبرئ ذمتي أمام الله،
أطرق رأسه لحظةً طويلة، كأنما يغوص في أعماق سنواتٍ مضت، مملوءة بالجهد والصبر والتجارب، ثم رفع رأسه بوقار وصدق رجولي وقال. والله، ربّوك رجال. اعتبرني من اليوممستشارك الأول، بلا مقابل، وفي أي وقت. والبيت مفتوح لك دائماً، والله لن أخفي منك أيأمر يفيد الصندوق وخدمة الناس. هكذا كان غلام الدين: رجلاً لا يختبئ وراء انتماء، ولا يساوم على حب الوطن. لم يكن يرفع صوته بالشعارات، لكنه كان يضع بصمته في صمتٍ وهدوء، حيث يكون البناء أصدق من القول، والعطاء أبلغ من الزيف.
اليوم، إذ يوارى جسده الثرى، فإن سيرته تبقى شاهدةً على أن الرجال العظماء لا يموتون، بل يتحولون إلى ذاكرةٍ حيّةٍ في وجدان الأمة. لقد رحل جسده، لكن أثره باقٍ، يذكّرنا أن الأوطان تُبنى بالصدق، لا بالمزايدات، وبالإخلاص لا بالمناصب. رحمك الله رحمةً واسعة، وجعل مثواك الجنة، وجعل ما قدّمت لوطنك وأهلك في ميزان حسناتك. نسأله سبحانه أن يُلهم أسرتك وذويك وزملائك في الصندوق الصبر والسلوان، وأن يُسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين. إن رحيلك ليس غياب جسدٍ عن الدنيا، بل حضورٌ أعمق في ذاكرة الوطن. لقد علّمتنا أن خدمة البلاد لا تحتاج إلى ألقاب، بل إلى صدقٍ يترك أثراً، وأن ما يبقى للإنسان بعد رحيله ليس ما جمع من مال، ولا ما حاز من جاه، بل ما بذل من إخلاص، وما ترك من سيرته العطرة شاهدةً عليه في وجدان الناس. إنا لله وإنا إليه راجعون. [email protected]
Sent from Outlook for iOS
|
|