أشهد أني عشت قصة قصيرة كتبه عاطِف عبدالله قسم السيد

أشهد أني عشت قصة قصيرة كتبه عاطِف عبدالله قسم السيد


09-08-2025, 01:58 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1757336287&rn=0


Post: #1
Title: أشهد أني عشت قصة قصيرة كتبه عاطِف عبدالله قسم السيد
Author: عاطِف عبدالله قسم السيد
Date: 09-08-2025, 01:58 PM

01:58 PM September, 08 2025

سودانيز اون لاين
عاطِف عبدالله قسم السيد-UAE
مكتبتى
رابط مختصر






صديقي الوحيد كان جعفر، معلّم الإنجليزية الذي توفي قبل بضعة أشهر. كنت أحبه لصدقه وطيبة قلبه وتعاطفه، ولأنه يسمح لي أحياناً بأن أهزمه في الشطرنج حين يزورني في البيت. رغم أنه عاش حياة صاخبة مليئة بالملذّات والمغامرات، على النقيض من حياتي الرتيبة. كان عاشقاً للسينما والمسرح والموسيقى والرقص، بينما أنا لم أدخل قاعة سينما قط، وكنت أرى ما يفعله من باب اللهو المذموم الذي قد يُلهي المسلم عن واجباته الدينية والدنيوية، أو يوقعه في معازف محرّمة. لكنه، للأمانة، كان يؤدي فروضه معي في المسجد كلما كان متواجداً معي بالبيت.

كان يقصّ عليّ مغامراته النسائية، فأضحك مستعيذاً بالله. كثيراً ما حاول أن يجرّني إلى عالمه، يدعوني إلى السينما أو المسرح، فأكتفي بالضحك ولعن شيطانه. وحين دعوتُه إلى عالمي لم يمانع؛ رافقني إلى أداء العمرة. لكن بعد عودتنا عاد إلى مجونه كأن شيئاً لم يكن. ومع ذلك، من المفارقات ولحب الرحمن له، مات بين يديه وهو ساجد في المسجد.

أعمل معلماً للغة العربية. منذ صغري وأنا أرافق أبي إلى المسجد، حتى صار جزءاً من كياني وملاذاً لروحي. أقضي معظم وقتي هناك، في المسجد الذي شيّده جدي، وكان أبي إمامه حتى وفاته. رُشحت لتولي الإمامة، لكنني رفضت أن أرث مكانته، واكتفيت أن أكون فيه مصلّياً ومجاوراً.

تزوجت صغيراً من سارة بنت عمي. حين بلغت التاسعة عشرة، عُقد زواجنا وهي في السادسة عشرة. لم يُستشر أحدنا ولم نرفض، فقط قيل لنا إننا كبرنا، والزواج سيعصمنا، وقد كان. ومنذ ذلك اليوم صارت أول وآخر امرأة في حياتي. أنجبتُ منها ثلاث بنات، جميعهن تزوجن وتفرّقن في أصقاع الأرض. آخرهن ياسمين، التي لحقت بزوجها إلى ولاية آيوا الأميركية. ومنذ رحيلها زهدت في النساء وبقيت وحيداً بين البيت والمسجد.

البيت صامت، جدرانه لا تعكس سوى رجع أنفاسي. الصبح يتسلل من نافذتي، يلامس وجهي، يوقظني من سبات طويل ويهمس: غداً تنقضي خمسون عاماً من رحلتك. خمسون عاماً حُبست فيها داخل مثلث ضيّق: المدرسة والبيت والمسجد.

لم أكن أولي أعياد ميلادي اهتماماً، حتى حين كانت زوجتي تحاول أن تحتفل بي كل عام بعطر فاخر. كنت أستقبله ببرود يطفئ بريق عينيها. رحلت، فغابت الهدية والاحتفال. لم أسافر... لم أغامر... لم أخاطر... رغم أنني ميسور الحال بما ورثت، عشت زاهداً قليل النفقات، وكان أكثر ما أنفقه يذهب إلى المسجد.

لكن هذا العام شعرت أن شيئاً في داخلي يطالبني بالخروج من صمتي. السبب كان قصيدة وقعت صدفة في طريقي.

كنت بالمدرسة أؤدي حصتي كالمعتاد، وكان الدرس يومها عن أبي العتاهية. وأنا أردد بصوت عالٍ إحدى قصائده المحببة إلى نفسي:

لَعَمرُكَ ما الدُّنيا بدارِ بَقاءِ
كَفاكَ بدارِ المَوتِ دارَ فَناءِ
فلا تعشقِ الدُنيا أخي ...
فإنَّما يُرى عاشِقُ الدُنيا بجهدٍ بَلاءِ
حَلاوتُها مَمزوجةٌ بمرارةٍ ...
وَراحتُها مَمشوجةٌ بِعَناءِ

وبينما أنا مندمج في الدرس، لاحظت أحد الطلاب يطالع ورقة غير مبالٍ. استشاط غضبي، وطلبت منه أن يقف. أردت أن أحرجه، فسألته عما يقرأ، فقال: قصيدة بعنوان "أشهد أنني قد عشت" لشاعر تشيلي اسمه بابلو نيرودا. كتمت غيظي وطلبت منه أن يقرأها بصوت عالٍ ليزداد حرجاً.

لكن على عكس ما توقعت، أخذ الطالب يقرأ بثقة:

يموت ببطء من لا يسافر،
من لا يقرأ،
من لا يسمع الموسيقى،
من لا يجازف بتغيير عاداته...

رأيت تجاوب الفصل معه، فأسكته وصادرت القصيدة، ثم صممت على معاقبته فطردته من الحصة. غير أنني لم أستطع العودة إلى أبي العتاهية من جديد. خرجت من الفصل مشتعلاً بالغضب، ولم أستعد هدوئي إلا في المساء حين عدت إلى بيتي. هناك، وجدت القصيدة لا تزال في جيبي. كنت أنوي تمزيقها أو حرقها، غير أن الفضول دفعني إلى قراءتها:

يموت ببطء...
من لا يغيّر وجهته حين يحس الفتور في العمل أو الحب...
من لا يركب المخاطر ليحقق الأحلام...
من لم يحاول مرة في حياته التمرد على النصائح...
عش حياتك الآن، جازف اليوم، تصرف بسرعة، تفادَ الموت البطيء...
لا تحرم نفسك من السعادة.

شعرت أنها تعرّي روحي. كنت طوال حياتي على يقين مع أبي العتاهية، حتى جاء نيرودا ليهمس لي أن الحياة تُعاش، لا تُؤجَّل.

تذكرت جعفر وكيف كان يتوسل لي بأن أخرج لأرى الدنيا. قررت أن أحتفي بيوبيلي الذهبي على طريقتي. حلقت لحيتي، خلعت الجلباب، ارتديت بذلة أنيقة، قميصاً أبيض وربطة عنق حريرية، وحذاءً أسود لامعاً. لم أتعرف إلى وجهي في المرآة؛ بدا وكأن شاباً دفيناً خرج من بين ثنايا العمر.

استدعيت سيارة أجرة، وطلبت من السائق أن يأخذني إلى أحد المسارح. لكن حين وصلنا، همست متردداً:
ــ "غيرت رأيي... خذني إلى ملهى للرقص."

التفت إليّ السائق وقال مستغرباً:
ــ "نعم يا أستاذ؟ لم أسمعك جيداً، ماذا قلت؟"

كاد عقلي يطير من رأسي حين ناداني بكلمة أستاذ. سألته بارتباك:
ــ "هل تعرفني؟"
قال بهدوء:
ــ "لا، لماذا؟ هل يجب أن أعرفك؟"

تنفست الصعداء، ثم رجوتُه:
ــ "أرجوك... لا تنادني أستاذ."
ابتسم السائق بأدب وأجاب:
ــ "هذا ما تعودت عليه، أن أنادي كل الركاب بأستاذ أو أستاذة، من باب الاحترام."

قلت وأنا أحاول تغيير الموضوع:
ــ "خذني إلى إحدى دور السينما."
فردّ:
ــ "أي دار تقصد؟ هناك عدة دور."

تلعثمت، ثم قلت فجأة:
ــ "خذني إلى نادي الزهرة البيضاء... كثيراً ما سمعت جعفر يذكره."

ضحك السائق وقال:
ــ "أين هذا النادي؟ لم أسمع به من قبل."
أجبته مرتبكاً:
ــ "نايت كلوب الزهرة البيضاء."

قهقه السائق:
ــ "آه! قصدك ملهى الوردة البيضاء."

تمسكت بكلماتي:
ــ "نعم... ملهى، نادي، ليلي... المهم، خذني إلى هناك."

كان الملهى غارقاً بالأضواء. دخلت متردداً وجلست في ركن قصي. طلبت كأس نبيذ لأول مرة في حياتي، وأشرت للنادل أن يحضر أفخر ما لديهم. الغناء كان صاخباً لكن بلا روح، والوجوه مبتهجة لكن بلا معنى. شعرت أن جعفر ربما خدعني، أو أنني أنا الذي لم أتقن فن الحياة.

ثم أعلن المذيع الداخلي عن فقرة الراقصة. انطفأت الأحاديث فجأة، كأن القاعة ابتلعت أنفاسها. تبدلت الموسيقى، وصار إيقاعها نابضاً كالدم في الشرايين. ومن خلف الستار خرجت هي.

كانت بيضاء البشرة، شعرها الأسود ينساب كسيل على كتفيها حتى أسفل ظهرها. ترتدي فستاناً أبيض حريرياً يطرزه ترتر أحمر يلمع مع كل حركة كأنه شرر يتناثر من جسدها. على خصرها يزدان حزام ذهبي ينسكب منه الضوء، وكانت خطواتها على إيقاع الدفوف كأنها قلب يخفق على الملأ. لم يشدني جسدها ولا حسنها، بل الروح التي أطلقتها من بين حناياها؛ كل عضلة، كل التفافة، كانت قصيدة تتحرك، وكان جسدها يكتب في الهواء لغة لا تفك رموزها إلا العيون المبهورة.

لم أعد أنا. سكبت النبيذ كأساً بعد كأس، والدفء يصعد من روحي قبل رأسي. فجأة جلست فتاتان بجانبي، تبادلنا الكؤوس والضحكات، ثم دعَتاني إلى الرقص. ترددت، فأنا لم أرقص يوماً، لكني نهضت. في البداية كنت أتحرك بارتباك، ثم شيئاً فشيئاً أطلقت العنان لجسدي، كأنني أتمرد على خمسين عاماً من الانضباط. ضحكت الفتاتان، وراحتا تقلّدان حركاتي. والدهشة أن الآخرين أيضاً تبعوني، حتى صارت القاعة كلها ترقص كما أرقص. كنت نجماً لا يُرى إلا في تلك اللحظة.

وفي ذروة انتشائي، وأنا أدور كمن يكتب قصيدة بجسده، لمحت طيف جعفر، جالساً بين حسناوات لم أر أجمل منهن. كان يضحك، يرفع كأسه نحوي، ويشير لي بإبهامه علامة الإعجاب. لم يلتفت إليه أحد سواي.

في تلك اللحظة، شعرت بأن قصيدة نيرودا تكتمل بي. سمعت صوتها داخلي: عش حياتك الآن... جازف اليوم... لا تحرم نفسك من السعادة.

حينها غمرتني السعادة حتى آخر قطرة في دمي. خفق قلبي خفقة أخيرة، وقد تذوقت الحياة أخيراً. رأيتني أرتفع بخفة، روحي ترفرف على إيقاع طبول مسحورة. ابتسمت، وأحسست ـ للمرة الأولى ـ أني عشت.

نعم... أشهد أني عشت.

_______________________________________________
عاطِف عبدالله قسم السيد Atif Abdalla Gassime El-Siyd
أبو ظبي ص ب 129661 P.O.Box : 129661 Abu Dhabi