ليس لادريس من يكاتبه !!! كتبه الأمين مصطفى

ليس لادريس من يكاتبه !!! كتبه الأمين مصطفى


09-08-2025, 01:50 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1757335813&rn=0


Post: #1
Title: ليس لادريس من يكاتبه !!! كتبه الأمين مصطفى
Author: الأمين مصطفى
Date: 09-08-2025, 01:50 PM

01:50 PM September, 08 2025

سودانيز اون لاين
الأمين مصطفى-السودان
مكتبتى
رابط مختصر




في مدينة لا يذكر نضالها، بعد انقلاب عسكري مفاجئ، وجد السيد إدريس نفسه رئيسًا للوزراء. لم يكن إدريس رجلًا عسكريًا، بل كان أكاديميًا مضطربا، يمتلك مكتبة ضخمة وابتسامة هادئة، وحلمًا قديمًا بأن يصبح حلمه بالرئاسة حقيقةتحت اى سلطة كما حلم برهان. لكن الكلمات والأفكار لم تكن هي العملة المتداولة في عهد القائد برهان، رجل العضلات والخطابات الرنانة، الذي أمسك بزمام الأمور بقبضة من حديد.كان تعيين إدريس رئيسًا للوزراء بمثابة لفتةبارعة من برهان لتجميل صورته أمام المجتمع الدولي. "انظروا، لدينا حكومة مدنية!" كان لسان حاله يقول، بينما كان إدريس يجلس في مكتبه الفخم، الذي كان أكبر من شقته القديمة بثلاث مرات، ينتظر. ينتظر ماذا؟ لا أحد يدري بالضبط، ولا حتى إدريس نفسه. كان ينتظر رسالة، مكالمة هاتفية، إشارة، أي شيء يدل على أن وجوده له معنى، أن له صلاحيات، أن له صوتًا.كل صباح، كان إدريس يرتدي بدلته الأنيقة، يربط ربطة عنقه بعناية فائقة، ويتوجه إلى مكتبه. كان المكتب يطل على ساحة المدينة، حيث كانت الدبابات تجوب الشوارع بانتظام، تذكر الجميع بمن هو السيد الحقيقي. كان إدريس يجلس خلف مكتبه الكبير، يقلب الأوراق التي لا تحمل أي أهمية، يوقع على قرارات روتينية لا يغير فيها شيئًا، ويشرب القهوة الباردة. كان يرسل سائقه كل يوم إلى مكتب البريد، ليس ليتلقى معاشًا تقاعديًا كما الكولونيل العجوز في رواية ماركيز، بل ليتلقى أي بريد رسمي موجه إليه شخصيًا، أي دعوة لاجتماع حقيقي، أي مذكرة تتطلب رأيه الحقيقي. لكن السائق كان يعود دائمًا خالي الوفاض، أو يحمل رسائل دعائية لا قيمة لها.في زاوية مكتبه، كان يقف قفص ذهبي فاخر، بداخله عصفور ذهبي اللون، صامت دائمًا. كان هذا العصفور هدية من برهان، قيل إنه رمز للسلام والازدهار. لكن إدريس كان يراه رمزًا لأمله الزائف. كان يطعمه أفضل أنواع البذور، يغير له الماء بانتظام، وينظف قفصه بنفسه، على أمل أن يغني يومًا ما، أن يصدر صوتًا يدل على الحياة، على الأمل. لكن العصفور ظل صامتًا، يحدق فيه بعينين زجاجيتين، كأنه يقول: "لا أحد يكاتب الوزير، ولا حتى العصفور."كانت الأيام تمر، الواحدة تلو الأخرى، متشابهة ومملة. كان إدريس يحضر الاجتماعات الحكومية، يجلس في الصف الخلفي، يصفق عندما يصفق الآخرون، ويومئ برأسه عندما يومئ برهان. كان يحاول أحيانًا أن يطرح سؤالًا، أن يقدم اقتراحًا، لكن صوته كان يضيع في ضجيج خطابات برهان الرنانة، أو يقابل بنظرات فارغة من الوزراء الآخرين، الذين كانوا جميعًا من رجال برهان المخلصين، أو من الانتهازيين الذين تعلموا كيف يظلوا صامتين.كانت زوجته، السيدة فاطمة، التي كانت تعاني من صداع مزمن، أكثر واقعية منه. كانت تقول له: "يا إدريس، لماذا لا تستقيل؟ أنت لا تفعل شيئًا سوى الجلوس والانتظار. أنت مجرد ديكور." لكن إدريس كان يرفض. كان يقول: "ربما يتغير الأمر. ربما يدرك برهان أنني أستطيع أن أقدم شيئًا." كان يتمسك بخيط رفيع من الأمل، مثل الكولونيل الذي كان يتمسك بأمله في المعاش، أو بالديك الذي كان يراهن عليه.ذات يوم، أعلن برهان عن مؤتمر صحفي كبير، سيعلن فيه عن "إنجازات عظيمة" للحكومة. كان إدريس يجلس في الصف الأول، يرتدي بدلته الجديدة، ويحاول أن يبدو متحمسًا. تحدث برهان عن الاقتصاد الذي يزدهر، وعن الأمن الذي يسود، وعن المستقبل المشرق. لم يذكر إدريس بكلمة واحدة، لم يشر إلى وجوده حتى. في نهاية المؤتمر، سأل أحد الصحفيين: "سيدي القائد، ما هو دور رئيس الوزراء في كل هذه الإنجازات؟" نظر برهان إلى الصحفي بابتسامة عريضة، وقال: "رئيس الوزراء؟ إنه يقوم بعمله على أكمل وجه!" ثم ضحك الجميع، بمن فيهم إدريس، ضحكة فارغة.عاد إدريس إلى مكتبه، جلس أمام العصفور الذهبي الصامت. نظر إليه طويلًا، ثم مد يده وفتح باب القفص. "اذهب، أيها العصفور،" قال بصوت خافت، "ابحث عن مكان يغني فيه صوتك." لكن العصفور لم يتحرك. ظل جالسًا في مكانه، صامتًا، يحدق في إدريس. أدرك إدريس أن العصفور، مثله تمامًا، أصبح أسيرًا لقفصه الذهبي، أسيرًا لوضع لا يستطيع الهروب منه.استمر إدريس في منصبه. لم يستقل، ولم يمنح أي صلاحيات. أصبح مجرد ظل، مجرد اسم على ورقة، مجرد ديكور في مسرحية عبثية. كان يذهب إلى مكتبه كل يوم، يرتدي بدلته الأنيقة، ويجلس أمام العصفور الذهبي الصامت. لم يعد ينتظر رسائل، ولم يعد يأمل في تغيير. لقد تصالح مع واقعه، واقع أنه "ليس للوزير من يكاتبه"، ولا حتى العصفور. وفي كل مرة كان برهان يظهر على شاشات التلفزيون، يلقي خطاباته الرنانة، كان إدريس يجلس في مكتبه، يحدق في العصفور الذهبي، ويفكر في أن السخرية الحقيقية ليست في انتظار رسالة لا تأتي، بل في أن تكون الرسالة الوحيدة التي تتلقاها هي صمت عصفور ذهبي في قفص فاخر.