رداً على مقال د. الوليد آدم مادبو _نيالا: بداية المخيلة الوطنية الجديدة كتبه عبدالغني بريش فيوف

رداً على مقال د. الوليد آدم مادبو _نيالا: بداية المخيلة الوطنية الجديدة كتبه عبدالغني بريش فيوف


09-02-2025, 03:54 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1756824873&rn=0


Post: #1
Title: رداً على مقال د. الوليد آدم مادبو _نيالا: بداية المخيلة الوطنية الجديدة كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 09-02-2025, 03:54 PM

03:54 PM September, 02 2025

سودانيز اون لاين
عبدالغني بريش فيوف -USA
مكتبتى
رابط مختصر





في خضم المأساة التي تعصف بالسودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023، تتصاعد أصوات تحاول إعادة صياغة السردية الوطنية، وتقديم تفسيرات لما يجري، تتجاوز التحليل السياسي الرصين إلى عوالم التبرير الأيديولوجي.
يبرز في هذا السياق، د. الوليد آدم مادبو في مقاله المعنون (نيالا: بداية المخيلة الوطنية الجديدة)، والذي يقدم نموذجا فجا لمحاولة تجميل وجه العنف، وتغليف مشروع ميليشياوي بغلاف فكري تنويري مزعوم.
المقال، على الرغم من لغته الشعرية المنمقة ومصطلحاته البراقة، يمثل وثيقة إدانة فكرية لكاتبه أكثر منه رؤية لمستقبل السودان، فهو يكشف عن عمق التناقض الذي يعيشه مثقفون اختاروا الاصطفاف مع العنف العاري، محاولين إلباسه ثوب الثورة والانعتاق.
يدعي المقال أن ما حدث في نيالا يوم 29 اغسطس 2025، هو انزياح للروح والوجدان وولادة وعي جديد، بينما الحقيقة على الأرض، التي يعرفها أهل نيالا والسودان أجمع، هي قصة دمار وتهجير وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع، التي يدافع عنها الكاتب بضراوة في كل محفل، بينما ينفي انتماءه الرسمي لها.
يبدأ د. مادبو مقاله بلغة تحتفي بالحدث وكأنه ثورة شعبية عارمة، أو استفتاء ديمقراطي اختارت فيه الجماهير طوعا نقل مركز حياتها إلى نيالا، لكن أي جماهير يتحدث عنها الكاتب؟
هل هي جماهير نيالا التي تعرضت لأبشع أنواع القتل والنهب والاغتصاب والتطهير العرقي على يد الميليشيا التي يعتبر احتلالها للمدينة انعتاقاً؟
هل هي مئات الآلاف الذين فروا من ديارهم حفاة عراة، تاركين وراءهم تاريخهم وممتلكاتهم وجثث أحبائهم في الطرقات؟
الحقيقة الدامغة، هي أن انزياح السلطة إلى نيالا، لم يكن انزياحا للروح، بل كان غزوا عسكريا دمويا، لم يكن صوتا جهورا للجماهير، بل كان دوي المدافع وأزيز الرصاص الذي استباح مدينة آمنة.
إن استخدام مصطلحات مثل الانعتاق والتنفس والإرادة الشعبية في هذا السياق، هو تزييف مبتذل للواقع، ومحاولة يائسة لغسل أيدي الميليشيا من الدماء التي أراقتها.
إن هذا التناقض بين لغة الكاتب الرومانسية وواقع الميليشيا الوحشي، هو السمة الأبرز لخطابه، فهو يتحدث عن لحظة وعي جديد يولد من رحم المعاناة، متناسيا أن من تسبب في هذه المعاناة هي ذات الجهة التي يمجدها.
كيف يمكن لمشروع يدعي أنه ضد تمزيق الأواصر الإنسانية أن يقوم على جماجم الأبرياء، وكيف يمكن لـصرخة تدعي أنها ضد الاستعباد أن تنطلق من حناجر أولئك الذين استعبدوا المدن ونهبوها؟
إن ما يقوم به الكاتب هنا هو قلب للحقائق، وتحويل الضحية إلى جلاد، والجلاد إلى محرر، فالجماهير التي يتحدث باسمها هي في الحقيقة أول ضحاياه، والتحرير المزعوم ليس سوى اسم حركي للاحتلال، وهذا التناقض الفاضح يكشف عن الموقف الحقيقي للكاتب، ليس كمثقف محايد يحلل الأحداث، بل هو بوق دعائي لمشروع ميليشياوي، مهمته الأساسية هي توفير غطاء فكري وأخلاقي لجرائم الحرب.
لا يختلف اثنان على أن الدولة السودانية منذ استقلالها عانت من أزمة بنيوية حقيقية، تمثلت في هيمنة المركز على حساب الأطراف، وفي التوزيع غير العادل للسلطة والثروة.
هذا النقد ليس جديدا، بل هو أساس الأدبيات السياسية التي تناولت الأزمة السودانية لعقود، لكن عندما يصدر هذا النقد من شخص مثل د. مادبو، فإنه يفقد مصداقيته ويتحول إلى أداة انتهازية.
فالكاتب، الذي يتباكى اليوم على مظلومية الهامش، هو نفسه أحد أبناء المركز ومستفيديه، لقد تعلم في مدارسه، وتخرج من جامعاته، وشغل مناصب في مؤسساته، واستفاد من الامتيازات التي يوفرها هذا المركز الذي يهاجمه اليوم بضراوة.
إن نقده للمركز ليس نابعا من معاناة حقيقية أو إيمان بقضية المهمشين، بل هو جزء من صراع النخب، إنه لا يسعى لتفكيك بنية المركز الظالمة، بل يسعى لاستبدال نخبته القديمة بنخبة جديدة يمثلها هو ورعاة مشروعه السياسي.
وهنا يكمن التناقض الثاني: استخدام خطاب المظلومية الشعبوية لخدمة أجندة نخبوية، إنه يستعير معاناة أهل دارفور وكردفان الحقيقية، والتي لا شك فيها، ويستخدمها كوقود لمعركته الخاصة للوصول إلى السلطة.
إنه يتحدث عن كرامة المزارع والراعي، بينما يدعم ميليشيا قوامها الأساسي هو نهب هؤلاء المزارعين والرعاة، وسرقة مواشيهم، وحرق قراهم.
إن خطورة هذا الطرح تكمن في أنه يختزل الأزمة السودانية المعقدة في ثنائية تبسيطية (مركز/هامش)، ويتجاهل عمدا أن الميليشيا التي يروج لها هي نفسها أداة قمع استخدمها المركز ذاته لعقود لسحق تمرد الهامش.
ميليشيا الدعم السريع لم تولد من رحم معاناة المهمشين، بل ولدت من رحم نظام عمر البشير كأداة بطش في دارفور وغيرها، واليوم، حين انقلبت هذه الأداة على صانعها، يحاول منظروها تقديمها كحركة تحرر وطني، إنها مفارقة مأساوية أن يصبح جلاد الأمس هو محرر اليوم في خطاب د. مادبو وأمثاله.
في محاولة لإضفاء عمق فكري وبعد حداثي على مشروعه، يقفز د. مادبو إلى الحديث عن العلمانية، ويقدمها في صورة مثالية كحل سحري لأزمات السودان، وكطريق لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة.
لا شك أن النقاش حول علاقة الدين بالدولة هو نقاش ضروري وحيوي لمستقبل السودان، ولكن طرحه في هذا السياق وبهذه الطريقة يثير الريبة الشديدة.

إن التناقض هنا صارخ وفاضح، إذ كيف يمكن لشخص يدعم ميليشيا تقوم ممارساتها اليومية على أسس قبلية وعرقية بحتة، وتنفذ عمليات تطهير عرقي ممنهج في الجنينة ونيالا ومناطق أخرى، أن يتحدث عن مشروع علماني يقوم على المواطنة المتساوية؟
العلمانية، في جوهرها، هي تجاوز للهويات ما قبل الوطنية (القبلية، العرقية، الدينية) لصالح هوية المواطنة، أما المشروع الذي يروج له د. مادبو، فهو على النقيض تماما، إنه مشروع يقوم على عسكرة الهوية القبلية، وفرض هيمنة مجموعة عرقية محددة بقوة السلاح.
إن رائحة العنصرية والقبلية المقيتة التي تفوح من مواقف الكاتب، تجعل من حديثه عن العلمانية مهزلة، لأن المشروع الذي يدافع عنه ليس علمانيا ولا حداثيا، بل هو مشروع رجعي يعيد السودان إلى عصور ما قبل الدولة، حيث شريعة الغاب وحكم القوة المجردة.
الميليشيا التي تحتل نيالا اليوم لا تبني وطنا حديثا يستند إلى الأطر العلمية والمنهجية، بل تمارس النهب والسلب وتدمير الجامعات والمستشفيات والبنى التحتية، وهي أفعال تتناقض كليا مع أي تصور لدولة حديثة أو فكر مستنير.
إن استخدام مصطلح العلمانية هنا ليس أكثر من قناع تنويري شفاف، يوضع على وجه مشروع عنصري دموي، بهدف تسويقه للخارج، وخداع قطاعات من النخبة السودانية التي قد تنطلي عليها هذه المصطلحات البراقة، إنها محاولة لسرقة مفاهيم التقدم والحداثة وتجييرها لصالح مشروع هو نقيضها المطلق.
إن أخطر ما في مقال د. مادبو، هو الدعوة الصريحة إلى تفكيك الدولة السودانية تحت مسمى إعادة تعريف الوطنية، فعندما يحتفي الكاتب بإعلان حكومة من مدينة محتلة من قبل ميليشيا متمردة، ويصفه بأنه بداية السودان الحقيقي، فهو لا يدعو إلى إصلاح الدولة، بل يدعو إلى تدميرها.
إن أي مشروع وطني حقيقي وجاد لا يمكن أن يبدأ من فوهة بندقية ميليشيا، إذ ان بناء الأوطان عملية سياسية واجتماعية معقدة، تقوم على الحوار والتوافق والمؤسسات، وليس على الغزو والاحتلال.
إن المخيلة الوطنية الجديدة التي يبشر بها، د. مادبو ليست سوى خيال مريض، يرى في الخراب عمرانا، وفي التفكك ميلادا.
هذه اللحظة السودانية بامتياز التي يتحدث عنها، هي في الحقيقة لحظة انهيار بامتياز، إنها اللحظة التي يتم فيها شرعنة حمل السلاح ضد الدولة، وتأسيس سلطة أمر واقع بقوة النار، وهذا لا يؤسس لسودان جديد، بل يؤسس لنموذج الدولة الفاشلة، حيث تتعدد السلطات والجيوش، وتتحول البلاد إلى ساحة حرب أهلية دائمة، على غرار ما حدث في ليبيا أو اليمن.
إن الادعاء بأن هذا المشروع ليس جهويا، هو قمة المغالطة، بل هو مشروع جهوي وعنصري بامتياز، يسعى لفرض رؤية منطقة واحدة وقبيلة واحدة على بلد شديد التنوع.
السودان الحقيقي الذي يحلم به، د. مادبو هو سودان مختزل، سودان مشوه، سودان تحكمه ميليشيا واحدة، وتُقصى منه كل المكونات الأخرى التي لا تخضع لمشروعها.
على العموم، يمثل مقال، د. الوليد آدم مادبو، دراسة حالة في كيفية تحول المثقف إلى مجرد أداة في يد السلطة الغاشمة، وكيف يمكن للغة أن تُستخدم لتزوير الواقع وتبرير أبشع الجرائم، إنه مقال مبني على سلسلة من التناقضات المفضوحة:
يمجد تحرير الشعب، بينما يدعم من يقتله ويهجره.
ينتقد نخبة المركز، بينما هو جزء منها، ويسعى لاستبدالها بنخبة أخرى أكثر وحشية.
يدعو إلى العلمانية والتنوير، بينما يبرر لمشروع قائم على العصبية القبلية والعنصرية.
يبشر بسودان جديد، بينما يشرعن للأفعال التي تقود إلى تفكك الدولة وحرب أهلية لا نهاية لها.
إن المخيلة الوطنية الجديدة التي تنطلق من نيالا، ليست مخيلة بناء، هي كابوس دمار، والسودان الحقيقي لن يبدأ من مدينة محتلة، ولن ينهض على إرادة ميليشيا منفلتة، بل سيولد فقط عندما يصمت صوت الرصاص، وتحاسب كل الأطراف على جرائمها، ويجلس جميع أبناء السودان، دون إقصاء أو تمييز، لبناء دولة حقيقية تقوم على أسس العدالة والمواطنة والمؤسسات وسيادة حكم القانون، لا على شريعة الغاب ومنطق الغنيمة الذي يبشر به د. مادبو ورعاته.
مقال الدكتور الوليد آدم مادبو موسى، ليس سوى محاولة لغسل يدي المليشيا من دماء الضحايا السودانيين، وتبرير الانتقال الجهوي القسري للسلطة تحت عناوين براقة تخفي وراءها انتهازية سياسية وفكرية عميقة.
لا يمكن لسودان جديد أن يولد من رحم الحرب وانقلاب المليشيات والمجاهدين، ولا من عباءة العنصرية والقبلية، مهما كان خطاب التنوير مشرقا على الورق، إذ ان الإصلاح الحقيقي يبدأ بإدانة كل الانتهاكات، ورفض كل الوصايات، والعمل من أجل دولة سودانية موحدة، مدنية، عادلة، يحكمها القانون والمؤسسات، لا الأصوات المتقلبة للمصالح والانتفاع الشخصي.
السودان بحاجة إلى مشروع وطني لا إلى إعادة تدوير المليشيات وخطابات الظلم والانتقام، لنبني مخيلة سودانية حقيقية، لا مرافعة نفعية لأمراء الحرب وكتّابهم.