Post: #1
Title: دكتوراه تحت القصف.. من غزة إلى جامعة سودانية كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 08-31-2025, 11:21 PM
11:21 PM August, 31 2025 سودانيز اون لاين د. ياسر محجوب الحسين-UK مكتبتى رابط مختصر
أمواج ناعمة
في ظل مشاهد الدمار والموت التي تلف فلسطين المحتلة، وتحديدا في قطاع غزة، تبرز كلمات طالب دكتوراه، ماجد أبو مراد، كنبراسٍ يضيء درب الإنسانية في أحلك الظروف. رسالته إلى لجنته العلمية في جامعة سودانية، المُعدّة لمناقشة أطروحته افتراضيا، ليست مجرد تواصل أكاديمي، بل شهادة حيّة على صمود الروح أمام وحشية الحرب، وإعلانا بأن التعليم، حتى في زمن القصف، يظل فعلا مقاوما للظلام.
"أترقب لقاءكم إن أبقاني الله، فأنا في غزة تحت القصف وقد يسبقني الأجل بالشهادة"، هكذا يكتب طالب الدكتوراه الفسطيني من غزة الصمود بكل تواضع وصدق، ليضعنا أمام واقع مرير: طالب علم يُجهّز لمناقشة أطروحته، بينما القنابل تتساقط حوله، وبيته قد يصبح ركاما في أي لحظة. لا يطلب رحمة، ولا يشكو من تعب السهر، بل يطلب الدعاء، ويُذكّر بقدرة الله، في لحظة تختزل فيها إرادة الإنسان وعجزه وثقته بالله.
وقد نقل رسالة الطالب الفلسطيني أحد زملاءنا من أساتذة الإعلام في بلادي، أرض العلم والتعليم، عبر قروب واتساب لمجموعة "باحثون" التي تضم عددا من أساتذة الإعلام، لتصبح شهادة حيّة أمام المجتمع الأكاديمي والإعلامي، تعكس واقع غزة وصمود التعليم في أحلك الظروف. هذه الرسالة ليست مجرد خبر عابر، بل وثيقة إنسانية وإعلامية بالغة الأهمية. فهي تكشف عن جرحين عميقين في وجدان الأمة: أولهما المأساة المستمرة لأهل غزة، الذين يُعاملون كـ”سكان منطقة قتال”، وفق تصريحات الاحتلال، بينما يُحرمون حتى من حق النجاة. في زمن تتزايد فيه الجرائم الحربية ضد المدنيين، يبقى العالم صامتا، وتهمس المطالبات بوقف إطلاق النار، بينما تُستحل دماء الأطفال والنساء. رسالة ذلك الطالب هي صرخة صمت تفضح زيف الخطاب الدولي، وتُذكّر بأن وراء كل رقم في تقارير الأمم المتحدة إنسان يهجر، يُقتل، أو يحاول أن يُنهي رسالة دكتوراه تحت أنقاض بيته.
الجوانب الثانية لا تقل عمقا: صمود المؤسسة الأكاديمية في السودان، رغم الحرب المدمرة. أن تُجرى مناقشة دكتوراه افتراضيًا بين طالب من غزة وأساتذة من السودان، في ظل النزوح والدمار، هو دليل على أن العقل لا يُهزم. التعليم هنا يتجاوز كونه مجرد نشاط تعليمي، ليصبح رمزا للكرامة والمقاومة. فالحفاظ على استمرارية الدراسة، في ظل هذه الظروف، هو تحدٍّ للإبادة الثقافية، وتأكيد على أن الأمة، مهما ابتُليت، لن تُكسر.
ولابد من توجيه تحية وإجلال لجامعاتنا السودانية على إصرارها، رغم الحرب وظروف النزوح والدمار، على مواصلة العملية التعليمية في الجامعات والدراسات العليا، بما يحافظ على سمعة مؤسساتنا الأكاديمية ويثبت للعالم أن العقل السوداني لا يُهزم حتى في أحلك الظروف. وليس ذلك مجرد شعارات، فبالأمس القريب أعلنت جامعة الخرطوم عن اكتشاف علمائها علاجًا ناجعًا لمرض الإيدز، وهو إنجاز علمي كبير مرّ – للأسف – مرور الكرام. هذا البعد لا يقل أهمية، إذ يكشف كيف يتحول التعليم إلى فعل مقاومة وصمود، وإلى مصدر أمل يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة.
رسالة ذلك الطالب الفلسطيني، تستحق إذن، أن تُوثّق، وتُدرس، وتُنقل عبر كل وسائط الإعلام. فهي ليست فقط شهادة على بشاعة الحرب، بل أيضًا على جمال الإصرار. في زمن تُختزل فيه القضايا الكبرى في تغريدات عابرة، نحتاج إلى مثل هذه الرسائل أن تُرفع كمُحرّض أخلاقي، يُوقظ الضمائر، ويُذكّر الجميع بأن خلف الكاميرات، هناك إنسان يُناضل من أجل حلم بسيط: أن ينهي دراسته، وأن يعيش.
التعليم، في النهاية، ليس فقط حقًا، بل وسيلة بقاء. ورسالة الطالب من غزة هي خير دليل على أن الأمل، مهما ضاق، لا يموت.
إن مسؤوليتنا، نحن أهل الإعلام والبحث، أن ننقل مثل هذه الشهادات لا كقصص عابرة، بل كوثائق للضمير الإنساني، تحفظ ذاكرة الشعوب، وتكشف التخاذل العالمي، وتؤكد أن التعليم والإرادة لا يقهرهما احتلال ولا حرب.
للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتب سلسلة (أمواج ناعمة): https://shorturl.at/YcqOh
|
|