Post: #1
Title: الحرب السودانية بين بنية الإفلات من العقاب وإمكان العدالة التاريخية: النخب، الإعلام، والمشروع الدست
Author: خالد كودي
Date: 08-25-2025, 02:28 PM
02:28 PM August, 25 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
الحرب السودانية بين بنية الإفلات من العقاب وإمكان العدالة التاريخية: النخب، الإعلام، والمشروع الدستوري التأسيسي
21/8/2025 خالد كودي
الجزء الأول
مدخل: إنَّ النظر في قضايا التجاوزات أثناء الحروب الأهلية والصراعات المسلحة يكشف عن مأزق فلسفي وأخلاقي مزدوج. فمن جهة، تنص المواثيق والدساتير الحديثة – ومنها ميثاق ودستور تحالف "تأسيس" – على مبادئ راسخة: احترام حقوق الإنسان، الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، حماية الأعيان المدنية، وضبط قواعد الاشتباك. ومن جهة أخرى، تفرض الحروب – باعتبارها حالة استثنائية من الانفلات والاضطراب – واقعًا يجعل التجاوزات شبه حتمية، نتيجة لانهيار الضوابط المؤسسية، وتسيّد منطق البقاء والانتقام، وانفلات الجماعات من أي رقابة أو محاسبة فعلية.
لكن المعضلة لا تكمن فقط في وقوع هذه الانتهاكات، بل في الخطأ المنهجي الذي يحصر النقاش في صور آنية مجتزأة من الفظاعة، لتتحول إلى مادة أخلاقية - إعلامية منفصلة عن بنية الحرب ذاتها. فبتركيز الخطاب على المشاهد الصادمة، تُغفل الأسئلة الكبرى: لماذا تنشب الحروب الأهلية أصلاً؟ ما هي البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تولّدها وتعيد إنتاجها؟ وكيف يصبح العنف وسيلةً متكررة لإدارة التناقضات داخل الدولة والمجتمع؟
إن التجاوزات ليست سوى أعراض مرضية لنظام سياسي واجتماعي مشوَّه، موروث عن تاريخ طويل من القهر واللامساواة وهيمنة النخب. والانغماس في إحصاء المجازر أو تضخيم حالات فردية من الانتهاك – مهما كانت بشاعتها – قد يتحول إلى نوع من الانغلاق في العرض بدلاً من معالجة المرض. وفي الحالة السودانية، يتجلى ذلك في ضوضاء الميديا وانشغال النخب بالتشهير الآني – غالباً بجرائم الدعم السريع وأحياناً بالجيش – مع إهمال جذور الأزمة: الدولة المركزية السلطوية، البنية الإقصائية، غياب العدالة التاريخية، والتوظيف الدائم للمؤسسة العسكرية كحَكَم زائف للوحدة الوطنية.
من هنا فإن الالتزام الدستوري المبدئي الذي يطرحه مشروع "تأسيس" لا ينبغي أن يُقرأ كشعارات مثالية في مواجهة واقع دموي، بل كـ محاولة لخلق قطيعة معرفية وسياسية مع منطق الحرب ذاته. فالمعركة الحقيقية ليست في تعداد الانتهاكات أو الاكتفاء بإدانات أخلاقية، وإنما في بناء منظومة جديدة للعدالة والدولة، قادرة على تفكيك البنى التي تنتج الحرب باستمرار. ذلك أن أي حديث عن حقوق الإنسان وسط الحروب، إذا لم يُقرَن بمشروع جذري لإعادة تأسيس الدولة على العدالة الاجتماعية والسياسية، سيظل ناقصًا، هشًا، ومفرغًا من محتواه.
أولاً: طبيعة الحروب الأهلية وإمكانات التجاوزات الحروب الأهلية ليست مجرد نزاعات مسلحة داخل حدود الدولة، بل هي انهيار شامل للنظام الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي يفترض أن يحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات. بخلاف الحروب بين الدول، التي غالبًا ما تظل فيها الجبهات محددة والمعارك تدور بين جيوش نظامية، فإن الحروب الأهلية تتموضع في قلب المجتمعات المنقسمة: الأحياء السكنية تتحول إلى خطوط تماس، العائلات تنقسم على أساس الولاء، والمدنيون يصبحون مادة للنزاع أكثر مما يكونون مجرد "ضحايا جانبيين". هذه الطبيعة تجعل إمكان التجاوزات والانتهاكات أعلى بكثير، حيث يختلط السياسي بالاجتماعي، والعسكري بالمدني، والقومي بالإثني والديني.
فلسفيًا، كما يرى حنّه أرندت، فإن الحرب الأهلية تكشف عن "التحلل الكامل للعقد الاجتماعي"، إذ يتحول الجار إلى عدو، وتنهار المسافة بين الخاص والعام، بين الحياة اليومية والموت الجماعي. أما عند فانون، فإنها حالة "الاستعمار الداخلي"، حيث تمارس جماعة مهيمنة نفس أشكال العنف التي مارسها المستعمر، لكن ضد أبناء الوطن الواحد. الأمثلة العالمية تبرهن على ذلك: - إسبانيا (1936–1939): الحرب الأهلية لم تكن مجرد صراع بين الجمهوريين والفاشيين، بل لحظة تفكك مجتمعي شامل، أنتجت مذابح متبادلة مثل مذبحة باراكوييوس من جانب الجمهوريين، ومجازر الفاشيين في قشتالة والأندلس. - رواندا (1994): الحرب الأهلية تحولت إلى إبادة جماعية، حيث شاركت ميليشيات مدنية عادية في القتل الجماعي للتوتسي، بما يعكس انغماس المجتمع نفسه في منطق الحرب والكراهية الإثنية. - يوغسلافيا السابقة: هنا تداخلت القومية والدين في سياق تفكك الدولة، فوثقت محاكم لاهاي جرائم تطهير عرقي واغتصاب جماعي ممنهج، استخدم كسلاح حرب. في السودان، تعكس الحروب الأهلية الممتدة منذ الاستقلال – من حرب الجنوب إلى دارفور، ومن جبال النوبة إلى الخرطوم نفس هذه البنية: انهيار العقد الاجتماعي، غياب الثقة، وتسييل الفوارق الإثنية والدينية في معارك عسكرية. فالجيش السوداني نفسه، الذي يفترض أن يكون "الضامن للوحدة"، انخرط تاريخيًا في قصف القرى والمجتمعات الريفية، بينما برزت ميليشيات مثل الدعم السريع كنسخة حديثة للانفلات الأهلي والعنف.
علم النفس الحربي وعلم الاجتماع العسكري يذهبان إلى أن الحروب الأهلية تولّد سيكولوجيا الانتقام الجماعي: الخوف والكراهية يتحولان إلى محرك للسلوك الميداني، بحيث يصبح ضبط الجنود والمقاتلين أقرب إلى المستحيل. هنا يكتسب قول الفقيه القانوني أنطونيو كاسيزي بعدًا فلسفيًا حين يؤكد: "لا يمكن لأي قيادة عسكرية أن تضمن صفراً من الانتهاكات، لكن يقاس الالتزام بالمعايير الدولية بمدى وضوح القوانين الداخلية وآليات المحاسبة."
بمعنى آخر، فإن الحرب الأهلية لا تُعرّف فقط من خلال التجاوزات التي تقع فيها، بل من خلال إمكان التجاوز كحالة بنيوية ملازمة لها، ومن خلال قدرة المجتمعات السياسية على محاسبة نفسها بعد توقف القتال. وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه السودان اليوم: هل يظل النقاش حبيس رصد الانتهاكات اللحظية، أم يتجاوز ذلك إلى مواجهة الجذور التي جعلت التجاوزات ممكنة أصلاً؟
ثانياً: التجاوزات في السودان وبنية الدولة المولِّدة لها: إن الانتهاكات في الحروب السودانية لا يمكن فهمها كأحداث استثنائية أو انحرافات مؤقتة، بل هي نتاج مباشر لبنية الدولة السودانية منذ الاستقلال. فقد ورثت الدولة المركزية جهازها الإداري والعسكري من الاستعمار وأعادت إنتاجه على قاعدة التهميش والإقصاء واستخدام العنف المُمنهج كأداة للحكم. وبذلك تحوّل الجيش والأجهزة الأمنية إلى أدوات للسيطرة على الأطراف وقمع التعدد الاجتماعي والسياسي، بدل أن تكون مؤسسات وطنية جامعة. ومن هنا أصبح العنف – المؤسسي والمستمر – جزءاً من آلية الدولة، لا خروجا عنها.
أ. تجاوزات قوات الدعم السريع بعد 15 أبريل 2023 قوات الدعم السريع ليست قوة "شاذة" أو خارجة عن النسق، بل هي تجسيد حي لسياسات خصخصة العنف التي اعتمدتها الدولة منذ نشاتها، مرورا لمابعد الاستقلال لتتجلي في عهد عمر البشير، حين فُوِّضت ميليشيات محلية وقبلية لإدارة الحروب بالوكالة، خصوصاً في دارفور. لكن نقطة التحول الكبرى جاءت مع اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، حين انقلب الدعم السريع على الجيش ودخل في مواجهة مفتوحة معه.
منذ ذلك التاريخ ارتكبت القوات سلسلة من التجاوزات الموثقة: - احتلال المنازل والمستشفيات وتحويلها إلى ثكنات عسكرية. - النهب المنظم واسع النطاق في الخرطوم ودارفور - قتل المدنيين بطرق ممنهجة، بما في ذلك حوادث الاغتصاب الجماعي والإعدامات الميدانية - تشريد واسع للسكان عبر إرهاب منظم يهدف إلى السيطرة على الفضاءات الحضرية هذه الانتهاكات لم تكن "خروجاً على الدولة" بقدر ما كانت استمراراً للمنطق الذي أنتج الدعم السريع نفسه: دولةٍ تخلت عن احتكار العنف وسلمته لوكلاء محليين، قبل أن ينقلب الوكيل على المركز ويعيد إنتاج أدواته على نطاق أوسع وأكثر فجاجة.
ب. تجاوزات الجيش السوداني: الجيش، وهو المؤسسة التي تُقدَّم دوماً بوصفها "حامية الدولة"، ارتكب بدوره سلسلة طويلة من التجاوزات، أقدم وأعمق واكثر خطورة من تجاوزات الدعم السريع: - منذ السبعينيات والثمانينيات: قصف القرى والمناطق الزراعية في الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق 2003–2005: - الإبادة الجماعية في دارفور، عبر مليشيات الجنجويد والقصف الجوي 2011–2019: - القصف العشوائي في جبال النوبة والنيل الأزرق، وسياسات التجويع والحصار 2019: - فض اعتصام القيادة العامة، الذي مثّل جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان - بعد أبريل 2023: القصف الجوي العشوائي للأحياء السكنية في الخرطوم ونيالا، الحصار والتجويع في مدني وأم درمان، والتعذيب والتصفية خارج القانون في المعتقلات. لكن ما يميز تجاوزات الجيش أنها محمية بشرعية موروثة؛ إذ تبررها النخب المركزية باعتبارها "أضراراً جانبية" ضرورية لحفظ الدولة، في الوقت الذي تُجرَّم فيه تجاوزات الدعم السريع باعتبارها تهديداً لجوهر الدولة نفسها. وهنا يتجلى التواطؤ الفلسفي والسياسي للنخب التي جعلت الجيش فوق المحاسبة، لأنه يمثل بالنسبة لها ركيزة السلطة التاريخية.
ج. التجاوزات كآلية لحفظ توازن القوى: التجاوزات في السودان – سواء من الجيش أو الدعم السريع – لا يمكن قراءتها فقط كأفعال منفلتة في لحظة حرب، بل ينبغي فهمها كـآلية لإعادة إنتاج موازين القوة: في المركز: تُستخدم تجاوزات الجيش لترهيب المجتمع وضبطه، وضمان بقاء النخب المسيطرة. في الأطراف: يُسمح لميليشيات مثل الدعم السريع بارتكاب انتهاكات واسعة لتثبيت دورها كقوة لا يمكن تجاوزها في معادلة السلطة. وبهذا تصبح الانتهاكات رسائل سياسية بقدر ما هي جرائم إنسانية: رسائل ترهيب للمجتمع، ورسائل تفاوضية بين مراكز القوة. وكما يشير ميشيل فوكو: "العنف ليس نقيض السياسة، بل أحد وجوهها."
إن تاريخ الانتهاكات في السودان – من إبادة دارفور إلى 15 أبريل 2023 وما بعده – يؤكد أن العنف ليس عرضاً طارئاً، بل هو أداة بنيوية للحكم في دولة لم تُبنَ على عقد اجتماعي جامع، وإنما على توازن هش بين العسكر والميليشيات والنخب. ولذلك فإن معالجة هذه التجاوزات لا تكمن في التنديد الأخلاقي وحده، بل في تفكيك بنية الدولة وإعادة تأسيسها على أسس جديدة من العدالة والمساءلة.
ثالثاً: وثائق الجيش السوداني وحكومة بورتسودان ومفارقات الشرعية: أصدرت الحكومة المتمركزة في بورتسودان (حكومة البرهان) جملة من الوثائق الدستورية المؤقتة والبيانات الرسمية التي تزعم الالتزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان. غير أنّ الممارسة الميدانية كشفت مفارقة صارخة: فالجيش، الذي يقدّم نفسه باعتباره "المؤسسة الشرعية الوحيدة" للدولة، انخرط في انتهاكات واسعة النطاق لا تقل جسامة، بل في كثير من الأحيان تفوق، تلك التي ارتكبتها الميليشيات الإسلامية التابعة له أو قوات الدعم السريع قبل وبعد الانشقاق عليه. من جهة، تمسكت هذه الوثائق بمفهوم "السيادة الوطنية" ذريعةً لرفض أي رقابة دولية، سواء من المحكمة الجنائية الدولية أو من لجان التحقيق الأممية. ومن جهة أخرى، امتنعت الحكومة عن إنشاء آليات محلية مستقلة ذات مصداقية للتحقيق في الانتهاكات، بل حصّنت الجيش وأجهزته باعتباره "الجيش القومي الوحيد"، واضعةً إياه فوق المساءلة. وبلغت المفارقة ذروتها حين رفضت الحكومة أي تحقيق دولي، حتى بعد ورود أدلة متكررة على استخدام الجيش أسلحة محرمة، منها الأسلحة الكيميائية. وهكذا تتكرر مأساة الدولة السودانية منذ الاستقلال: دولة تحمي مؤسساتها العسكرية من النقد والمراجعة، وتخفي جرائمها خلف خطاب "الوطنية" و"الدفاع عن السيادة."
لكن الأخطر أنّ حكومة بورتسودان لم تكتفِ بارتكاب الانتهاكات عملياً، بل صاغت لها إطاراً تشريعياً وأيديولوجياً وإعلامياً يقوم على خطاب الكراهية والعنصرية، مدعومةً بتواطؤ النخب. فقد أُقرت قوانين تمييزية عُرفت شعبياً بـ"قوانين الوجوه الغريبة"، استهدفت النازحين والمهجّرين من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، ووصفتهم بأنهم "غرباء" في مدن الشمال والشرق- مناطق سيطرة الجيش. لم تكن هذه القوانين نصوصاً إدارية فحسب، بل مثّلت شرعنة مؤسسية للتمييز الإثني، ترتبت عليها حملات تصفية، هدم للمنازل، اعتقال جماعية وتعذيب، مصادرة للحقوق الأساسية وترحيل قسري الي جهات غير معلومة، وتغذية لخطاب يُصوّر مواطنين سودانيين كغرباء في وطنهم.
في هذا السياق تتضح المفارقة التاريخية: المؤسسة العسكرية التي يُفترض أن تكون حامية للدولة والمجتمع تحوّلت إلى فاعل مركزي في إنتاج العنف والتمييز. أما الميليشيات الإسلامية، فهي تعمل كذراع تكميلي ينفّذ ما لا يستطيع الجيش أن يقوم به بشكل مباشر. كلاهما يشترك في بنية واحدة: بنية توظيف العنف والانتهاكات كأداة لحفظ توازن القوى في المركز وإدامة هيمنة النخب. وهكذا يصبح خطاب حكومة بورتسودان عن "الدستور" و"القانون" واجهة شكلية، بينما الواقع يعكس تقنين الانتهاك وتسييس الكراهية. هنا يحضر ما وصفته حنّه أرندت بـ"تفاهة الشر": حين تتحول البيروقراطية والقانون إلى أدوات تشرعن ما هو في جوهره جريمة ضد الإنسان.
يتبع في الجزء الثاني:
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|