Post: #1
Title: أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء السابع) كتبه د. الهادي عبدالله أ
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 08-24-2025, 02:27 PM
02:27 PM August, 24 2025 سودانيز اون لاين د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK مكتبتى رابط مختصر
أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء السابع) د. الهادي عبدالله أبوضفائر ٢٠٢٥/٠٨/٢٤ كانت أم سعونة، تلك القرية الوادعة، تحمل سرّ تميزها ليس في جغرافيتها ولا في خصوبة تربتها، بل في نقاء قلوب أهلها الذين تعلّموا أن التكافل هو روح الحياة. في أفراحهم، كانوا جسداً واحداً، وفي أتراحهم، كانوا قلباً واحداً يتقاسمون الحزن حتى يخفّ. هناك، لم تكن الجماعة مجرد وجود اجتماعي، بل ارواحاً متصلة تربط البيوت بوشائج محبة لا تنقطع. وحين يهبط الليل على القرية، لا يعرف الظلام طريقه إليها، إذ تتحول ساحاتها إلى مسرحٍ مفتوح، تضيئه أنشطة الطلاب كأنها مشاعل وعي مبكر. تصدح الحناجر بالمسرحيات الهادفة، وتتعالى الأناشيد العابقة بالمعنى، لتزرع في النفوس يقيناً بأن التعليم ليس مجرد حروف تُحفظ وتُكرّر، بل حياة كاملة تُعاش، وعالم جديد يُبنى في العقول قبل أن يُبنى على الأرض.
ومن بين أزقّة أم سعونة الضيّقة وبيوتها المتواضعة التي يكسوها الطين والقش، خرج رجال حملوا في وجوههم بساطة الريف، وفي عقولهم طموح وطن كامل. لم يكن خروجهم مجرد زينة للقرية، بل بصمة في بناء الدولة السودانية. كان منهم الاقتصادي اللامع عبدالله أبكر، خريج كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، الذي أصبح أول من وضع ميزانية متكاملة للاقتصاد العام في جنوب السودان، حين كان إبراهيم منعم منصور وزيراً للمالية. وكان منهم المهندس البارع أبكر أحمد حماد، مدير مشروع أبو نعامة للكناف، الذي حوّل الهندسة من مجرد أرقام ومعادلات إلى بناء ملموس على الأرض. ومن بينهم أيضاً الغزالي، خريج كلية التربية جامعة الخرطوم ومحمد إسماعيل ومحمد احمد عطرون، الذي حملوا رسالة التعليم كحياة، لا كمهنة عابرة. هؤلاء لم يكونوا مجرد أبناء قرية، بل كانوا شهوداً على أن القرى الصغيرة تستطيع أن ترفد الوطن برجال كبار، يكتبون تاريخاً يتجاوز حدودها، ويزرعون في الأجيال القادمة معنى الولاء والمسؤولية.
ولم يكن عطاء أم سعونة محصوراً في ساحتي الاقتصاد والتعليم، بل امتدّ كجداول ماء صافية تسقي كل مؤسسات الدولة. فمنها خرج رجال حملوا على عاتقهم أمانة المسؤولية بصدق وإخلاص، أمثال محمد آدم دومة، مدير عام الجمارك، الذي ظلّ اسمه قرين النزاهة والعدل. ومنها ضباط وهبوا أرواحهم للوطن، أبكر الحاج الرجل الخلوق، وعثمان محمد عبدالعزيز، الذين بقيت سيرتهم شاهدة على معنى التضحية. وفي ميدان الطب، شهد المرضى وذووهم قبل الشهادات أن الدكتور موسى إبراهيم الحاج لم يكن يعالج الأجساد فقط، بل يضمّد الأرواح بإنسانيته. وعلى طرق السودان وجسوره، عمل المهندس الشاب هارون إبراهيم الحاج، يربط بين المدن والقرى كما لو كان يربط بين القلوب. ومن على المنابر البرلمانية ارتفع صوت بشرى أبكورة، صوت المربي البرلماني الذي جمع بين التربية والسياسة في آن واحد، فيما ظل العمدة أحمد عبدالقادر حبيب رمزاً للحكمة والخلق القويم، يقود الناس باللين أكثر مما يقودهم بالسلطان. وفي ميادين الصناعة والاقتصاد، لمع اسم المهندس عبدالرحيم محمد إدريس في صناعة الغزل والنسيج، والخبير الاقتصادي صديق محمد أحمد، الذي حمل علمه كما يحمل المسافر زاده، يوزّعه وعياً على الأمة، ويزرع إدراكاً بأن المعرفة ليست ترفاً، بل ركيزة للبقاء.
أم سعونة ليست بقعة على خارطة السودان فحسب، بل روح متدفقة تتجاوز حدود القرية، لتقول إن الوطن يُبنى من التفاصيل الصغيرة قبل الملاحم الكبرى. في طرقاتها البسيطة تجسّد معنى التربية الجماعية، حيث يصبح العرق في الحقول، وجهد اليد في الدرس، وكلمة المعلم في فصل طيني، لبناتٍ وبذور تصنع الدولة عبر العصور. وفي ذاكرة القرية، لم تكن النساء مجرد ظلالٍ خلف الرجال، بل أعمدة صامتة ومشاعل خفية: كلتوم إبراهيم، مستورة سعدان، إلهام حامد، الرضية إبراهيم هارون، أحلام مختار، مريم عبدالله بريمة، إنصاف موسى، بثينة محمود، سمية محمود، وإلهام شمو. نساء آثرن البقاء في الظل ليصبحن ركائز ضوء للأجيال القادمة. هكذا أثبتت أم سعونة أن القرية، مهما ضاق حجمها، قادرة على أن تكتب في سفر الوطن صفحة من نور، حين تدرك أن بناء الدولة يبدأ من مقاعد الدراسة الطينية، ومن معلمة تزرع الحرف كحلم، والجهد اليومي كأثر خالد في ذاكرة الأمة.
وفي ذاكرة أم سعونة، عند (الدونكي)، تتناثر وجوه الرجال البسطاء الذين حملوا معنى التضحية اليومية في حياتهم. عمنا قدّال، وابوسن حبيب وخليل علي ومحمود ود فور وحمدان، وأحمد الهوبلي الذين جعلوا من السقاية رسالة أبوة، وعبدالله محمد طاهر، وعثمان هارون، وإبراهيم البورندي، وموسى آدم تيراب، وعبدالناصر ادميني، والممرض القدير عبدالرحمن عبدالكريم، وكتبة المحصول مصري منصور ومحمد عبدالله مختار وأبوسن أبكر بمواقفهم النبيلة، وعبدالحميد وحدان، ومحمد أحمد أبوبكر القادم من أم كدادة، وعثمان وأديس الضوء. وهناك طاحونة محمد إدريس، ملتقى الحكايات والأيادي، حيث يتقاطع الناس كما تتقاطع القصص، وتظل صورة عمنا عبدالرحمن حبيب محفورة في الذاكرة، واقفاً كجذع نخلة لا تهزه الرياح. إلى جانبه يطلّ أبو أضان بضحكته، والميكانيكي الماهر عبدالقادر محمد خير، الذي يحيي الحديد كما يحيي الطبيب جسداً عليلاً، ومعهما إبراهيم سليمان وعلي بلديبقو، رجال جعلوا من بساطة العيش عنواناً للكرامة، ومن العمل اليومي معنىً خالداً للتضحية، ليبقى الطاحونة رمزاً لحياة القرية، حيث يُصنع التاريخ بصمت الأيادي وصدق القلوب.
وفي الشمال، عند نقطة البوليص، رجال الأمن ومنهم زكريا ومن أبناء القرية الذين رسخوا قيم الانضباط والوفاء، أمثال ادم الجاك، حسن عبدالرحمن إسماعيل، وإسماعيل حامد حسن، وعبدالماجد قدال، ومن بين أبنائها ارتقى اللواء شرطة آدم عبدالله، والعميد الفاضل حسبون، والعقيد إبراهيم جمعة، ليظلّوا شعلة حماية الوطن. ومن معلمي الريف الأوائل تركوا أثراً لا يُمحى، أبرزهم الأستاذ أحمد محمد الجاك، الذي بدأ معلماً بسيطاً قبل أن ينتقل إلى سلك الجمارك ليواصل عطاءه بإخلاص ووفاء، والأستاذ الخلوق آدم سليمان، الذي حمل رسالة التربية بروحٍ لا تعرف الكلل. ولم تتوقف مسيرة أبناء أم سعونة عند التعليم والإدارة، بل امتدت إلى ساحات الجيش والشرطة، حيث برز عصام محمود، وصالح أحمد محمد، وغيرهم ممن حملوا السلاح دفاعاً عن حدود الوطن، ليظلّ كل منهم شاهداً على أن الولاء للقرية والوطن هو التزام يُعاش يومياً، وليس مجرد عنوان يُكتب في السجلات.
كانت أم سعونة قرية صغيرة بحجم عطائها الكبير، ذاكرة حية ومنارة تربوية. خرج من بيوتها أبناء حملوا الوطن في صدورهم قبل حقائبهم، يحملون بساطة الريف وإشراقة الحقول. علمتنا أن الوطن لا يُبنى في القصور وحدها، بل يبدأ من بئر الماء، وطاحونة الحبوب، وساحة الطلاب، حيث التضامن والخدمة تصنعان المجد. وهكذا تبقى أم سعونة، بمدارسها وآبارها وقلوب أهلها، جزءاً من التاريخ الحي للدولة السودانية، تذكّرنا أن العطاء الحقيقي يولد من القرية الصغيرة ليصل إلى معنى الوطن. [email protected]
|
|