أوجاع السودان: إعادة إعمار النفوس أصعب من بناء المدن كتبه محمد بدوي مصطفى

أوجاع السودان: إعادة إعمار النفوس أصعب من بناء المدن كتبه محمد بدوي مصطفى


08-23-2025, 05:04 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1755921851&rn=0


Post: #1
Title: أوجاع السودان: إعادة إعمار النفوس أصعب من بناء المدن كتبه محمد بدوي مصطفى
Author: محمد بدوي مصطفى
Date: 08-23-2025, 05:04 AM

05:04 AM August, 23 2025

سودانيز اون لاين
محمد بدوي مصطفى -Germany
مكتبتى
رابط مختصر






"الحرب لا تترك أحدًا بريئًا، فهي تدمر المنتصر كما تدمر المهزوم." – إرنست همنغواي



الظواهر النفسية والاجتماعية المصاحبة للحرب

الحرب: زلزال في الداخل

الحرب المستمرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع لا يمكن قياسها، يا سادتي، بإحصائيات الهدم والدمار للممتلكات الفردية والعامة التي تحوّلت إلى ركام، كما توحي مشاهد مدننا المهدمة التي صارت أشبه ببيوت الأشباح أو بالأحرى مدن الأشباح. كل فرد منّا يمكنه أن يرى ركام الحجارة، بيد أنّه لا يستطيع أن يبصر ركام النفوس؛ أمدرمان، مدني، الخرطوم، عطبرة، وغيرها تلك التي انهارت بصمت، تاركة في كل بيت جرحًا، وفي كل قلب ندبة وفي كل درب قطرة دم لشهيد أو شهيدة.

إنه يا سادتي زلزال صامت يفتك بأهل السودان، لا يفرّق بين أخضر ويابس، يحوّل الصبايا إلى أصنام، والأطفال إلى دمى بلا نبض. فلو كان للإنسان "مقياس ريختر" الذي يقيس قوى الزلازل، لَما استطاع أن يقيس حجم الخراب المادي والمعنوي الذي يتكبده أبناء النيلين في هذه الفترة المريرة.



ندوب النفس العميقة

الملايين الذين تركوا بيوتهم وأرضهم، خرجوا إلى دروب الله الواسعة طلبًا للسلام، لكنهم حملوا على أكتافهم وجعًا ثقيلًا. تشردوا، تبعثروا، وتشرذموا في بقاع الأرض، يحملون قلوبًا وحيدة وألسنة غريبة وأيادي خالية.

إنّهم لم يغادروا بيوتهم فقط، بل غادروا بعضًا من ذواتهم. في رحيلهم ذاقوا مرارة الفقد وعلقم الغربة، فتكاثرت الاضطرابات النفسية وتفجرت الآلام في الداخل. القلق، الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة، الذهان وحتى الانتحار، صارت أمراضًا شائعة. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن أكثر من 40% من النازحين يعانون أعراضًا نفسية خطيرة، فيما يُصاب واحد من كل عشرة باضطرابات حادة تعيق حياته اليومية.
أما الأطفال، فهم الأكثر هشاشة: صدمات الطفولة المبكرة لا تزول، بل تعرقل النمو النفسي، وتترك ندوبًا تمتد مع العمر كله.



انهيار المجتمع

هل يمكن أن نتحدث بمعايير علمية عن مجتمع؟ ونترك هذا التساؤل لسانحة أخرى. على أيّة حال فإن الحروب لا تفرّق بين غني وفقير؛ فقد ساوت بينهم في المأساة. كثير من المترفين وجدوا أنفسهم في أركان ضيقة بعدما غادروا قصورهم إلى العدم، فيما انحدر الفقراء إلى مخيمات النزوح، يمدّون أيديهم إلى السماء طلبًا للقوت في كل لمحة ونفس.


ومن رحم الحاجة وُلدت ظواهر خطيرة: التسوّل، الاحتيال، الجريمة، والمخدرات التي صارت تُباع على قارعة الطريق مع انهيار المنظومة الأمنية. غرق كثير من الشباب في مستنقع الإدمان، وارتفعت بينهم معدلات الانتحار والانفصام. ومع تهالك النظام الصحي ونقص الدواء، انتشرت الأمراض، والمخاوف مع انتشار الفقر الذي لم يشهد له البلد من مثيل وحتى الأدوية في صيدليات البلد صار أغلبها مدلس، ومن ثمّة ارتفعت معدلات الوفيات حتى غدت أيام أهلنا البسطاء بلا نور ولا برهان في نهاية النفق.


فإذا طرحنا السؤال الآتي: هل يمكن إعادة بناء المدن في سنوات أو بوقت وجيز؟ نعم. لكن هل إعادة بناء النفوس أمر هيّن؟ أن جراح الأطفال وآلام الكبار لا تندمل بسهولة، بل تبقى شروخًا غائرة، تنتقل كذاكرة ثقيلة عبر الأجيال في ذاكرتهم الجمعيّة.



خاتمة

قد يُعاد بناء البيوت من حجارة صماء، وتُرصف الطرق من جديد، لكن كيف يُعاد بناء الأرواح حين تتشقق كزجاج مهشم؟ الحرب تُطفئ الأضواء في الخارج، نعم، لكنها أخطر حين تُطفئ القناديل في الداخل. ومع ذلك، يبقى الإنسان ـ رغم كل جرح ـ الكائن الوحيد القادر على أن يحوّل الرماد إلى بداية، والخراب إلى درس، والجراح إلى حكاية تُروى للأجيال كي لا تتكرر المأساة.

ونقول للمتناحرين: "هلمّوا إلى ذهبكم يرحمكم الله" ... فقد أضعتم سودانًا كان قارة للثقافات لأسباب واهنة..