رغم أن ما دار في زيورخ بين البرهان والمبعوث الأمريكي ظل طي الكتمان إلا أن الجميع يترصد آثار هذا اللقاء ، حيث تزامن اللقاء مع قرار مهم يقضي بإخضاع جميع القوات المتحالفة مع الجيش بما في ذلك الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام ، لقانون القوات المسلحة . هذا التطور حمل معه إشارات عن طبيعة الضغوط الأميركية والتوازنات الداخلية التي تحكم المشهد .
قرار البرهان بإخضاع القوات في ظاهره يبدو مجرد خطوة قانونية عادية ، هدفها توحيد المرجعية العسكرية وضمان أن كل القوات تخضع لقانون الجيش . لكن في العمق ، يعكس حسابات أكثر تعقيداً . فمن ناحية ، هناك حركات مثل العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مناوي ، ما زالت متمسكة بخصوصية منحتها إياها اتفاقية جوبا للسلام وترى أن القرار يتعارض مع مكتسباتها في السلطة والثروة . ومن ناحية أخرى ، ظهرت خلال الحرب الأخيرة مليشيات ذات طابع إسلامي جهادي صارت قوة فاعلة ومقلقة ، خصوصاً للولايات المتحدة التي تخشى أن يتحول نفوذها إلى عائق أمام أي تسوية سياسية .
فهل جاء القرار استجابة مباشرة لضغوط أمريكية في لقاء زيورخ ، أم أنه مجرد ترتيب داخلي في إطار القانون ؟ هناك من يرى أن واشنطن اشترطت خطوات ملموسة لإعادة ضبط التشكيلات المسلحة وتقليص نفوذ الإسلاميين ، وأن البرهان تجاوب مع ذلك لفتح باب الدعم الدولي . بينما يرى بعض المراقبين أن الخطوة مجرد واجهة قانونية لتجميل الوضع أمام المجتمع الدولي ، دون أن تعني فعلياً إضعاف الإسلاميين أو المساس بنفوذهم في الدولة .
على خلفية المشهد ظهر اتجاهان عند المراقبين : الأول يقول إن البرهان نسّق مسبقاً مع الإسلاميين أنفسهم ، ووافقوا على القرار باعتباره خطوة شكلية لا تغير من واقع قوتهم ، لكنها تقلل الضغوط الخارجية . أما الاتجاه الثاني فيرى أن القرار يعكس بداية رضوخ البرهان فعلياً لشروط واشنطن ، وأنه بات يدرك أن استمراره في المعادلة مرهون بالابتعاد عن الإسلاميين وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على نحو يرضي القوى الدولية .
الخطوة إذن تحمل أكثر من احتمال لمستقبل الصراع في السودان . فإذا مضى البرهان فعلاً في إعادة هيكلة جدية ، فقد نشهد تراجعاً لنفوذ الإسلاميين وإعادة دمج تدريجي للحركات المسلحة تحت مظلة الجيش ، وهو ما قد يفتح الطريق لتسوية سياسية جديدة ، لكنه سيواجه مقاومة قوية من الداخل . أما إذا ظل القرار مجرد غطاء قانوني ، فإن الواقع الميداني لن يتغير كثيراً ، وستبقى تعددية القوى العسكرية قائمة مما يعني استمرار الازدواجية والارتباك . وهناك أيضاً احتمال ثالث يتمثل في تصاعد الخلاف مع بعض الحركات المتمسكة بجوبا خاصة بعد اتهام الحركات للبرهان في خطابه الموجه للمجتمع الدولي بتشجيع الدعم السريع بفصل دارفور ، وهو ما قد يقود إلى صدام جديد داخل معسكر حلفاء البرهان نفسه .
في النهاية ، لقاء زيورخ وقرار إخضاع القوات للقانون يعكسان معركة توازن دقيقة بين ضغوط الخارج وحسابات الداخل . فهل يختار البرهان السير في طريق يرضي واشنطن ولو على حساب تحالفاته التقليدية ، أم يكتفي بمناورة شكلية تضمن بقاءه مؤقتاً ؟ أيّاً يكن الجواب ، فإن أثر هذه الخطوة على موازين القوى داخل المؤسسة العسكرية وعلى المشهد السياسي السوداني سيكون بالغ الأهمية في قادم الأيام .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة