Post: #1
Title: متحف الذاكرة وخراب الحاضر- الحزب الشيوعي السوداني بين الوثائق والرماد
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 08-16-2025, 06:13 PM
06:13 PM August, 16 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
في التاسع والسبعين من عمر جرحنا، يصادف ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي السوداني لحظة مفارقة: السودان ينهار تحت حرب أهلية، والحزب يُجمّع وثائقه كأنه يُعدّ نصبًا لذاته، كأن التاريخ نفسه صار حجرًا يثقل كاهل الحاضر. تاج السر عثمان قدّم أضخم مكتبة عن ثورة لم تحدث، وكأن الحزب اختار أن يكون مؤرخًا لمعارك خسرها بدل أن يكون مقاتلاً في معارك اليوم. الوثائق، مهما كانت طويلة، ليست دليل عظمة، بل مرآة لأزمات متجذرة. هوس التوثيق بديلًا عن التغيير، مجلدات عن "تصحيح الخطأ" و"تجديد البرنامج"، لكنها لم تصحح علاقة الحزب بالجماهير، فالهزائم (يوليو 1971، حلّ 1965) تحوّلت إلى بطولات ورقية. انشطار الذاكرة يظهر صراعًا بين جيل المؤسسين وجيل النقد، وانقسامًا حول التحالف مع العسكر، الذي حوّل الحزب إلى رهين في زنزانة نميري. كتب عن الانقلاب الفاشل تُرَوّي تفاصيل التنفيذ لكنها تتجاهل السؤال الجوهري: لماذا ظلّ الحزب يغازل البنادق بعد أن مزقتها تجربة نميري؟ العقلية، وليس الوثائق، المشكلة الحقيقية. الشعار "الطبقة العاملة قائدة التغيير" انفصال كامل عن نقابات العمال بعد 2005، "معارك الجماهير" احتكار القرار للجنة المركزية، و"الاشتراكية العلمية" خطاب طقوسي يُردّد ضد الليبرالية دون تحليل واقعي. التمسك بدعوة "إسقاط النظام" منذ 1989 صار طقسًا مقدسًا بينما الخرطوم تحترق، والانكفاء على الذات يفضي إلى إصدار عشرات الكتب عن تاريخ الحزب أكثر من الكتب عن راهن السودان. فقدان البوصلة الطبقية صار واضحًا: لا صوت للحزب في مخيمات النزوح بدارفور، ولا في أحياء الفقراء بالخرطوم.
المقارنة أكثر إيلامًا- الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي تحالف لإنهاء الفصل العنصري بلا ذوبان، بينما الحزب السوداني تحالف مع نميري فـ سُحق، وحُـلّ، وأُعدم قادته. الحزب يعيش بين عبادة الذاكرة وفقدان الفعل. في لحظة تشظي الدولة، يغيب صوته من ساحات الفعل المباشر. الأرثوذكسية الثورية صارت حجرًا يعوق التحول المدني، والمركزية البيروقراطية صارت قوقعة أمام اللامركزية الشعبية التي أثارتها ثورات 2019 وما بعدها.
في عصر الشاشات والوسائط، يظل الحزب يصدّر مجلدات على الورق، بينما الجماهير تتفاعل في الفضاء الرقمي، يرفض التحالفات التكتيكية ويقدس الرموز التاريخية، كعبد الخالق محجوب، الذي صار صورة معلقة أكثر من كونه إلهامًا ديناميكيًا. الحزب يتمسّك بدور "المثقف العضوي"، بينما منظمات المجتمع المدني والمبادرات الشبابية صارت الفاعل السياسي والاجتماعي الحقيقي.
الذكرى 79 ليست احتفالًا، بل مرثية: لا قرارات مصيرية، لا تحوّلات فكرية، لا مراجعات بنيوية. الوثائق تغلّف القبر، والنقد الذاتي مؤجل. ما لم يبدأ الحزب من نقطة الصفر — نقد جذري للبنية الأيديولوجية والتنظيمية — سيظل يكتب عن الطبقة العاملة في بلد بلا مصانع. في النهاية، يظل السؤال ملحًا: هل يُولد الحزب من رماد وثائقه، أم أن القوائم الطويلة هي رصاصة الرحمة؟ هل يمكن أن يتحوّل متحف الذاكرة إلى ساحة فعلية، أم ستظل الخرطوم تحترق، والذاكرة شاهدة على الخراب، والحزب يكتب مرثياته؟
*قصيدة في ذكرى الرماد والوثائق
في التاسع والسبعينَ من عمرِ جرحِنا جاءت الذكرى.. لم تأتِ بالثوراتِ بل جاءت كَظلٍ يَتجوّلُ في مقبرة يُحصيَ أسماءَ الأمواتِ.. والراياتِ
أيها الحزبُ الذي كانَ طليعةَ العمالِ صارَ متحفًا لجدارٍ منَ الورق يُدوّنُ سيرةَ ثورةٍ لم تحدث ويُرثيَ خسرانَنا.. الذي طالَ الأفق
كانَ البيانُ الأولُ فجرَ الوعيِ وأصبحَ وثيقةً تُغَلّفُ الهزيمةْ ما قيمةُ التاريخِ إن صارَ قيدًا وما قيمةُ النقاءِ.. إن غرقَ الوطنُ في حريقِ الجريمةْ؟
تغنينا بالعمالِ.. بالفقراءِ والحاضرُ بلا مصانعٍ.. بلا نقاباتْ أينَ صوتُ الثورةِ في الخرطومِ المحترقةِ؟ أينَ الأيدي الممتدةُ لأحياءِ النزوحِ والمتاهاتْ؟
المركزيةُ صارت قوقعةً والأرشيفُ ديانةً تُتلى أينَ روحُ الشبابِ الذي يتحركُ في الفضاءِ الرقمي ويرفضُ التقديسَ.. ويُفجّرُ الحاضرَ كي يُرى؟
هل أنتَ اليومَ حزبٌ يكتبُ نهايته أم تجربةٌ تبحثُ عن بعثٍ جديد؟ يا من تعلّمَ الناسَ ثقافةَ التقديسِ هل ستجرؤُ أن تُولدَ من جديد؟
لا تُخبرنا عن وثيقةٍ.. عن تاريخِ بل عُدْ إلى الناسِ.. إلى الدمِ.. إلى النارْ فالذاكرةُ إن لم تُفَجّرْ ستبقى شاهدَ قبرٍ على مسارِنا.. وعلى انكسارِنا.. وعلى الخرابْ
|
|